بين الممكن والضروري تتفاوت تراتبية الأولويات وفق التصنيف الجديد الذي فرضته الأزمة، لكن إشكالية زيادة الرواتب والأجور قد لا تسامحنا بمنحها ترتيباً متأخراً على قائمة أولويات الظرف الراهن على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.

الواقع لا يجد الخبراء الاقتصاديون في زيادة الرواتب خياراً موفقاً في ظل اضطراب الوضع الاقتصادي وخاصة بعد انخفاض قيمة الليرة بنسبة وصلت إلى نسب مئوية غير مسبوقة.

لكن على الرغم من ذلك تبرز في خضم هذه المعمعة الاقتصادية ضرورات معيشية، مترافقة مع مؤشرات عديدة تؤكد ضرورة إيصال الدعم إلى مستحقيه، إذ يمكن مثلاً منح مبالغ مقطوعة لكل موظف وتوزيع مبالغ على كل أسرة فقيرة وفق مسح اجتماعي دقيق، وهذا الأمر لا يقتصر على المشتقات النفطية وإنما يشمل مصادر الطاقة والمواد الغذائية كالخبز، إذ يبلغ حجم الهدر الناجم عن دعمها مليارات الليرات وخاصة أن الدعم يُقدم للأسر الفقيرة والغنية على قدم المساواة دون مراعاة اختلاف الأوضاع المعيشية، ما يفرض إيجاد آلية فعالة قابلة للتطبيق تضمن توزيع الدعم بمختلف أشكاله توزيعاً عادلاً .

يبدو ضمان تحقيق هدف زيادة الأجور الاقتصادي والاجتماعي رهنُ زيادة الإنتاجية والسيطرة على الأسعار عملاً بمبدأ المتراجحة الاقتصادية القائمة على أن الأجور أعلى من الأسعار المفترض بقاؤها أقل من الإنتاجية حسب وجهة نظر خبراء أكاديميين يتحدّثون بحذر لاعتبارات تتصل بتوقيت هكذا طرح يجدون أنه غير مناسب في ظل الأزمة الراهنة لذلك رغبوا بعدم طرح أسمائهم الصريحة في سياق وجهات النظر التي تتدفّق حول الموضوع.

بعض هؤلاء أكد أن زيادة الإنتاجية تعدّ المصدر الأهم لتمويل زيادة الرواتب ، وغيابها يؤدي حتماً إلى البحث عن مصادر أخرى كإعادة توزيع الدخل وتخفيض الضرائب على الرواتب بما يضمن تقليل الاقتطاعات على أجور الموظفين التي تصب في النهاية في كتلة الرواتب والأجور، إضافة إلى إمكانية تمويل الزيادة من إعادة توزيع الدعم شرط توجيهه وفق خطة إستراتيجية تضمن تقديمه إلى الشرائح الاجتماعية المستحقة له على اعتبار أن أصحاب المنشآت الاقتصادية هم أكثر الفئات استفادة من دعم مصادر الطاقة ومشتقات النفط التي يفترض عكسه في تخفيض أسعار المنتجات، لكن للأسف هذا الأمر ملغى من حساباتهم بغية تحقيق مكاسب مادية إضافية.

ويشدد هؤلاء من جانب آخر على أهمية تخصيص بند زيادة الرواتب والأجور ضمن الموازنة العامة، فقد لا تستدعي الضرورة زيادة الرواتب كل عام لكن ليس هناك ما يضمن الحاجة إلى إصدار هذا القرار في أي وقت، وهنا يجب التمييز بين كتلة الرواتب والأجور المتضمنة تأمين فرص عمل للوافدين الجدد إلى سوق العمل وبين زيادة الرواتب المتضمنة المحافظة على استقرار الأسعار بغية تحسين معيشة المواطن، فالرواتب الاسمية تقترن بالرواتب الحقيقية علماً أن المستهلك يهمه الأجر الحقيقي المتمثل في شراء خدمات أكثر بسعر يلائم دخله، وهذا يتحقق حينما تكون الأسعار في حدها الأدنى والأجور في حدها الأعلى بما يضمن إيجاد صيغة متوازنة بينهما.

على الرغم من أهمية زيادة الرواتب في ظل الانكماش الاقتصادي الراهن لكن هذا القرار لن يكون صائباً إلا إذا كان جزءاً من حزمة متكاملة كتخفيض تكاليف الإنتاج والضرائب و لاستمرار بتشجيع التصدير وغيرها من إجراءات تتولى دراستها لجنة معنية بمعالجة آثار الأزمة، وبالتالي إصدارها ضمن سلة واحدة تصب في مصلحة الأطراف كافة وخاصة المواطن المعني الأول بزيادة الأجور- وفق رأي أكاديمي أيضاً- يؤكد أن إصدار القرار بشكل منفرد سينجم عنه سلبيات جمة أبرزها زيادة الأسعار في ظل غياب آليات رقابة فعالة وإحداث فجوة اجتماعية باعتبار أن الزيادة المرتقبة ستطبق على موظفي القطاع العام دون الخاص البالغة نسبته 60 %، ما يوجب اتخاذ تدابير فورية تدعم القطاعين العام والخاص كمنح لأسعار الفائدة على القروض – جرى دعم القروض مؤخراً – بغية زيادة الإنتاجية والمحافظة على الكوادر العاملة في ظل أزمة ألقت بظلالها على سوق العمل بعد تسريح القطاع الخاص أعداداً كبيرة من عماله أضيفوا إلى طوابير العاطلين عن العمل الذين لن تطولهم حتماً زيادة الرواتب، ومن هنا تبرز الحاجة لإعداد خطة متكاملة تشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية دون الركون إلى اعتبار زيادة الرواتب غاية بحد ذاتها.

إعادة توزيع الدعم تتطلب رؤية إستراتيجية بعيدة المدى تستند إلى أسس وأرقام واقعية تضمن إبصار هذه السياسة النور بعيداً عن أي تطبيقات خاطئة تجردها من معناها، لكن إجمالاً يجب إلا يستمر الدعم بشكله الحالي لكونه يحظى به أغنى الأغنياء إلى أفقر الفقراء، فمن المفروض استهداف فئات محددة وفق شروط واضحة تبتعد عن العمومية سواء أكان على صعيد دعم الخبز أم المازوت أم الكهرباء أم الطبابة أم التعليم، فزيادة الرواتب ليست الحل الأمثل في ظل الانفلات الحاصل في الأسواق المحلية، لذا يفضل إعطاء الأولوية لضبط الأسعار وإيصال المنتجات إلى المستهلك بأسعار مناسبة تتوافق مع دخله، فما الفائدة من رفع الأجور إذا استهلكها التجار والصناعيون في توسيع هوامش ربحهم؟؟ هو سؤال يتردد في الأوساط الأكاديمية والشعبية على حد سواء، ويرى معظم من أدلوا بدلوهم في الموضوع، إن الأزمة الراهنة لا تعالج باتجاه واحد فقط وإنما تتطلب تعاون أطراف العلاقة المسؤولين عن سوء الوضع القائم ممثلة في القطاع الحكومي والخاص والأهلي الذي يفترض اضطلاعه بدور أكبر في إدارة الأزمة.

أما النقديون فيرون أن زيادة الرواتب ستسهم في تقليص الفجوة بين الأسعار والأجور وخاصة أنها مستبعدة اقتصادياً لأسباب عديدة أهمها عجز الموازنة الكبير وانخفاض إيرادات الدولة بما يعنيه من ضعف إمكانية تمويل أي زيادة محتملة، ففي ظل هذا الوضع الاقتصادي القائم ستفرغ زيادة الدخول من محتواها، ما يستدعي التركيز على زيادة الدخول الحقيقية عبر تخفيض الأسعار، الذي يتحقق عبر تطبيق استراتيجيات فعالة ، كما تستطيع الدولة زيادة السلع المقدمة منها بأسعار تشجيعية وإضافتها إلى البطاقة التموينية وخاصة الداخلة في سلم استهلاك المواطن كحليب الأطفال، عدا عن اضطلاعها بمسؤولياتها الأساسية في تحديد الأسعار وضبطها ومراقبتها بدل الاكتفاء بلوائح غير ملزمة عديمة الجدوى، فإذا لم تنجح وزارة التجارة الداخلية في هذا الاستحقاق تكون عاجزة عن أداء دورها الرئيسي، علماً أن الواقع يثبت اليوم أن وجودها لا داعي له إطلاقاً.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات