في عصر وسائل التواصل الاجتماعية، ما تشاركه هو ما يحدث على أرض المعركة

قد يكون هذا أغرب طلب في التاريخ السياسي: عندما طلبت وزارة الخارجية الأمريكية مغرّدةً على التوتير: «توقفوا عن استخدام الصور المزيفة في "ابتزاز" الأشخاص من أجل دعم قضاياكم الخاسرة، فالصورة التي في الوسط مأخوذة من موقعٍ إباحيٍّ هنغاري.».

في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، نُشرت تغريدةٌ من حساب تويتر –وهو غير نشطٍ الآن– كانت تديره وزارة الخارجية الأمريكية، ملقيةً الضوء على جبهة جديدة في مستقبل الحرب: وهي جبهة شدّ الخيط*.

كانت الرسالة ثمرة جهد بذلته الإدارة في عام 2011، لتتبّع ومكافحة دعاية الإرهابيين، أولاً ضد "القاعدة"، ثم ضد "الدولة الإسلامية" التي كانت تنمو بسرعة والتي خرجت من بقاياها في العراق.

ربما تبدو الحملة مقبولة، ولكنها سرعان ما وصلت إلى نتائج عكسية. فبدلاً من التشجيع على المعركة ضد التطرف على الإنترنت، كان يخبئ مستخدمو التويتر أسئلة أكثر من تلك التي كان البيروقراطيون الضبابيون القيّمون على الحساب مستعدين للإجابة عنها.

تساءل شخص اسمه SpaSuzy «كيف عرفت وزارة الخارجية أنها كانت من مواقع إباحيّة هنغارية». وأضاف آخر "7thhorse" :«يا صاحِ [وزارة الخارجية الأمريكية] ... من الغريب أنك تعرف الكثير عن الإباحية الهنغارية».

بعد تهافت الشكوك الموجّهة ضدها، قررت وزارة الخارجية أنه من غير المناسب أن تكون الحكومة الأمريكية موضع سخريةٍ لوسائل التواصل الاجتماعية –من الأفضل لها التمسك بالغارات الجوية– وتوقيف العمل على حساب تويتر.

بعد أربع سنوات، تبدو هناك شكوك غريبة. في حقبة لم يصل فيها الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة عن طريق استخدامه البارع للوسيط الاجتماعيّ نفسه [تويتر] فقط، بل واستخدمه أيضاً لعزل وزير خارجيته الأول من منصبه، لقد تلاشت المفاهيم القديمة القائلة إن الحكومة يجب أن تبقى فوق خلافات وسائل التواصل الاجتماعية. أصبحت مواقع فيسبوك، ويوتيوب وتويتر ساحات معارك حاسمة للسياسة والحروب وحتى للحقيقة نفسها. لقد برزت وسائل التواصل الاجتماعية لتصبح حلبة تناقل الحقيقة مدى انتشار وامتداد الرسالة– في هذا المجال، وأصبح كسب الاهتمام هو القوة. اكسب ما يكفي منه ويمكنك إعادة نسج الواقع.

منذ جيل مضى، بدأت الفكرة الجديدة لما أُطلق عليها "الحرب الافتراضية" –اختراق الشبكات– في تحويل الصراع إلى مجال جديد. واليوم، فإن ما نسميه "شبه الحروب" –اختراق حياة الناس والأفكار على تلك الشبكات– يمثل أحدث تطور في طبيعة الحرب المستمرة في التطور.

ظاهرياً، قد يبدو العديد من هذه المعارك التي تُشن على وسائل التواصل الاجتماعية مجرد دعاية ونسخة سخيفة في كثير من الأحيان، مثل وضع مراهق ساذج على خشبة مسرح عالمي. على سبيل المثال، في آب/أغسطس 2017، هاجم حساب تويتر الرسمي للحكومة الأوكرانية روسيا بسخرية من خلال نشر مقطع " GIF" مضمونه ما يأتي: «لو احترمتِ [يا روسيا] القانون الدولي لتجنبتِ العقوبات». في حزيران/يونيو 2018، ردت السفارة الإسرائيلية في العاصمة واشنطن بطريقة غير تقليدية على تهديدات الزعيم الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي لإسرائيل، ونشرت مقطع " GIF" من فلم "فتيات لئيمات". وفي أيار/مايو 2018، قامت القوات الجوية الأمريكية بإطلاق الدعابات حول الغارات الجوية في أفغانستان، في حين ردت حركة طالبان عليها عن طريق إثارة السخرية حول علاقة حب غير مشروعة للقائد الأمريكي السابق ديفيد بترايوس.

إنَّ هدف كل هؤلاء اللاعبين ليس مجرد الضحك، بل هو السخرية من خصومهم وتوسيع نفوذهم، في عالم يمكن أن يؤدي فيه النفوذ على الإنترنت إلى قوة حقيقية في العالم. لكن ينطوي تحت كل ذلك، جانبٌ أكثر خطورةً من الصراع، ذخيرته هي سلسلة من الصور المأخوذة من المعارك الفعلية. واليوم، يتم تعقّب جميع خطواتنا تقريباً في أي شيء، بما يشمل ابتداءً الحملات الانتخابية، وصولاً إلى الحملات العسكرية.

وبعض هذه الصور متعمَّد: صور شخصية مأخوذة في خضم المعارك، مراقبون يراقبون الأحداث، هاتف ذكي في متناول اليد. يتم التقاط الآخرين في الخلفية: سواء كانت الصور أو حتى المعلومات التي تظهر في الخلفية الرقمية، من مواقع السي آي أي الجغرافية السرية التي كُشفت بسبب استخدام الحراس لتطبيقات التمارين الرياضية على الإنترنت إلى البيانات الوصفية التي ترافق كل طلب وظيفة عبر الإنترنت. والنتيجة هي أن أصغر المعارك النارية يشاهدها جمهور عالمي، حتى أن الهجمات الإرهابية قام منفذوها بنشرها بأنفسهم.

ثم يقوم محلّلو الاستخبارات من مصادر المعلومات المفتوحة [غير السرية] باستخدام هذه المعلومات الصغيرة الرقمية ذاتها لكشف أسرار جديدة، وتوثيق جرائم الحرب التي قد لا يتم تعقّبها، أو تقييم قوة تشكيلات العدو التي من شأنها أن تمر دون ملاحظة. إنها تعمل من أجل الخير والشر على حدٍّ سواء: يستخدم الإرهابيون هذه المعلومات لكسب مُجنَّدين جددٍ؛ ويستخدمها نشطاء حقوق الإنسان لتسليط الضوء على مِحنة المدنيين المحاصرين المعرضين للخطر، بل وتوجيه المنقذين للوصول إليهم ومساعدتهم. ذلك أنّه طوال معركة "الموصل" في العام 2016-2017 –الحصار الأكثر حشداً في الواقع وكذلك على مواقع التواصل الاجتماعي في التاريخ– انتظر آلاف المراقبين وراء الشبكات لمعرفة محتوى كل مقتطف جديد، وليرسلوه بدورهم إلى الجهات التي يجب أن ينتهي به عندها في الوقت نفسه.

لا تقتصر هذه المعارك التي تدور في الظلال الرقمية فقط على كشف الأسرار، بل وتدفن الحقائق أيضاً، وحتى أنها تتحكم بالقلوب والعقول والأفعال. على سبيل المثال، قام الروس بإنتاج دمى الماتريوشكا الروسية [تحمل صوراً للمرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب]، وهذه أكثر قليلاً من مجرد التدخل في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة عام 2016. واستخدموا مزيجاً من عمليات مدرسة المعلومات القديمة وتقنيات التسويق الرقمي الجديدة لإشعال شرارة الاحتجاجات في العالم الحقيقي، وتوزيع العديد من النشرات الدورية الإخبارية، والتأثير في الناخبين في واحدة من أحدث الانتخابات في التاريخ الحديث. باستخدام وسائل الإنترنت فقط، تسللوا إلى مجتمعات سياسية أمريكية معينة بشكل كامل، حتى أن الناخبين الأمريكيين نفسهم سرعان ما بدأوا في تكرار النصوص المكتوبة في سانت بطرسبورغ وما زالوا يعتقدون أنها تخصهم.

على الصعيد الدولي، أثارت هذه الهجمات الإعلامية الروسية المشاعر المعادية للناتو في ألمانيا من خلال اختلاق الفظائع عنه من لا شيء. وخلق الحجج لغزوات محتملة على إستونيا ولاتفيا وليتوانيا من خلال تأجيج الكراهية السياسية للأقليات الروسية العرقية. وفعلت الشيء نفسه بالنسبة للغزو الحقيقي لأوكرانيا. وهذه فقط العمليات التي نعرفها.

قد تبدو مثل هذه المناوشات على الإنترنت تافهة بالمقارنة مع المعارك الحقيقية التي تم خوضها بأسلحة حقيقية، لكنها أصبحت بالقدْر نفسه من الأهمية. وكما قال الجنرال ستانلي ماكريستال، القائد السابق لقيادة العمليات الخاصة في مؤتمر عسكري في عام 2017، في المستقبل المنظور، فإن ما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي سيكون حاسماً في أي نقاش أو معركة أو حرب. وأوضح بأن السبب هو المعارك تدور الآن حول الحقيقة نفسها. في هذه المعارك، «سيكون الخط الفاصل بين الواقع والوعي غير واضح»، قال «فالفصل بين الواقع والخيال سيكون صعباً بالنسبة للحكومات، ولكنه يكاد يكون مستحيلاً على السكان.»

قد تبدو تعليقات ماك ماكريستال، وكأنّها تردّد ما كان يهذي به أليكس جونز صاحب نظريات المؤامرة سيئ السمعة الذي يستخدم موقعاً اسمه معلومات الحروب (Infowars) شعاره: «هناك حرب تدور في ذهنك!»؛ لكن هذا لا يجعلها أقل صدقاً. إن فهمنا الشخصيَّ السياسيَّ للعالم الذي تتم غربلته بشكل متزايد من خلال مصادر الإنترنت، والصور والأفكار التي يتم توزيعها على وسائل التواصل الاجتماعية، قد تصبح أكثر أهمية من الحقائق الموضوعية. كما يقول ماكريستال، «تكوين رأي حول أي جانب هو الصواب أو الجانب الذي سيفوز سيكون أكثر أهمية واقعياً من الجانب الذي هو على حقّ أو الفائز».

في الواقع، لا تشكل الرسائل المتداولة من خلال وسائل التواصل الاجتماعية اليوم مجرد النتائج التي يمكن تصورها للنزاعات، بل هي الخيارات ذاتها التي يتخذها القادة خلال الحملات العسكرية. على سبيل المثال، وضعت روسيا عملياتها المعلوماتية في سلاح قوي وسريع يستطيع استهداف الناخبين الأمريكيين أو ضرب المدفعية في أوكرانيا، باستخدام ما يحدث في العالم عبر الإنترنت لتحديد الموقع الجغرافي للجنود، ثم صنّفتهم في عداد الموتى حتى قبل أن تطلق مدفعيتها. إن وسائل التواصل الاجتماعية تشكل مصدر التدفق الكلي للمعلومات. وجدت دراسة أُجريت عام 2016 من قبل الأستاذ في الجامعة الأمريكية توماس زيتزوف على حملة الجيش الإسرائيلي الجوية عام 2012 ضد حماس في قطاع غزة، أن الصراع يتبع الوتيرة المحددة على توتير. تغيرت وتيرة العمليات والاستهداف حسب الجانب الذي كان يسيطر على المحادثة عبر الإنترنت في ذلك الوقت. كان الضباط العسكريون والقادة المدنيون يراقبون ما تقدمة وسائل التواصل الاجتماعية ويستجيبون وفقاً لذلك.

في بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي ما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعية إلى إثارة معارك جديدة، خاصة عندما تلعب على وتر التوترات أو الكراهية القائمة منذ أمدٍ بعيد.

ألقت الحكومة السريلانكية باللوم على الشائعات التي انتشرت سريعاً على فيسبوك لإثارة الكراهية التي أدت إلى هجوم وحشي على الأقلية المسلمة في البلاد في آذار/مارس الماضي. وفي حزيران/يونيو، دفعت تقارير كاذبة عممت بين 200 مليون من مستخدمي الوتس أب في الهند لتنفيذ موجة من عمليات الإعدام خارج نطاق القانون. وفي الوقت نفسه، تستمر الرسائل العنصرية والشائعات التي يشاركها الفيسبوك في تغذية التطهير العرقي المستمر لأقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار.

تشير الأدلة المتصاعدة إلى أن هذه الحروب عبر الإنترنت قد لا تكون السبب في بدء المعارك وعمليات القتل الجماعي فقط؛ بل تجعل الصراعات أكثر صعوبة. لاحظ علماء الجريمة الذين يدرسون ارتفاع حالات القتل في مدن مثل شيكاغو كيف أن نسبة العنف تكون متزايدة بين العصابات، بسبب تبادل الكلام الجارح والإهانات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. في بعض الأحيان، تكون الشرارة عبارة عن رمز تعبيري غير محترم؛ في أوقات أخرى، تكون قصة قديمة منسية منشورة منذ مدّة طويلة، ثم تتكشف في اللحظة التي تصاعدت فيها التوترات. على عكس التفاعل في الشارع (أو من قبل الدبلوماسيين في مفاوضات تقليدية)، لا يهم إذا كانت الإهانة الأصلية قد تمت قبل عام وبعيداً مئات الأميال عنه. كل ما يهم هو أن العالم يشاهد والإنترنت لا ينسى أبداً.

من السهل أن نرى كيف ستربك ديناميكية مماثلة مفاوضات وقف إطلاق النار في المستقبل، سواء كانت نهاية تمرد أو انتهاء حرب رئيسة بين الدول. هناك دائماً بعض الأشخاص عازمون على إبقاء العنف مستمراً. ولا يهدأون أبداً على الإنترنت.  

قد يبدو كل ذلك مروعاً، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعية بدأت للتو في رسم مستقبل الحرب. نصف العالم فقط على الإنترنت، في حين أن أدوات "شبه الحروب" اليوم تحوم مثل طائرات الحرب الجوية. والواقع أن الذكاء الآلي الجديد يُصعّب على البشر تمييز الحقّ من الباطل، وربما يعيد رسم تصورنا للواقع ذاته. على مدار العام الماضي، أصبحت التقنيات اللازمة لإنشاء "حقائق مزيفة"، وهي عمليات تزوير رقمية واقعية، تم إنشاؤها بواسطة شبكات ذكاء عصبية اصطناعية متطورة، أصبحت متاحة بشكل متزايد.

هذه التكنولوجيا المتطورة، التي تستخدم في الغالب من قبل علماء الكمبيوتر والمصوِّرين الابتكاريين، ستغمر الإنترنت قريباً، تقوم بتقليدٍ صوتي مثالي، وتصوير فيديو واقعي، وشبكات واسعة من الروبوتات التي يمكن تبادل الثرثرات معها والتي لا يمكن تمييزها عن نظرائها من البشر. ومثل كل شيء آخر، من المرجّح أن تكون الحقائق المزيفة العميقة هي الأسلحة، سواء في الانتخابات أو حتى المعارك.

لقد ذقنا طعمها بالفعل؛ في طريقه للاستيلاء على الموصل، كان تنظيم "الدولة الإسلامية" قادراً على استخدام مزيج من الأخبار الحقيقية والمزيفة للمساعدة في تحفيز وحدات الجيش العراقي للتراجع. حتى وحدات الحرب المعلوماتية الأمريكية تتدرب الآن على نشر مواقع رقمية زائفة لتضليل أعدائها. قد نواجه في يوم من الأيام احتمال تكرار حادثة رقمية مثل حادثة خليج تونكين [معلومات غير صحيحة تؤدي لحرب كتلك التي حدثت في خليج تونكين بين فيتنام الشمالية والولايات المتحدة في مياه خليج تونكين. في 2 أغسطس 1964]*. أدت المعلومات، إلى حرب حقيقية مبنية بالكامل على الأكاذيب التي نسجتها منظمة العفو الدولية.

هذه التغييرات تعيد رسم سرعة وخبرة وحتى وصول الصراع. في عصر وسائل التواصل الاجتماعية، فإنَّ كل انتخابات وكل صراع وكل معركة تكون عالمية ومحلية في وقت واحد. حتى في الوقت الذي تنمو فيه تجربة الحرب الفعلية بشكل متزايد، بخلاف الغرب، مع كل جيل، فقد أصبحت أكثر شخصية من أي وقت مضى. إن خياراتنا لما نحبه ونشاركه (أو لا) لا تشكل فقط نتائج الانتخابات والمعارك، بل تحدد أيضاً ما يُعامل به أصدقاؤنا وعائلتنا والعالم الأوسع نطاقاً. قد لا تكون مهتماً بشبه الحروب هذه، لكن مستقبل الحرب والسياسة مهتم بك كثيراً – وبنقراتك***.

 


* استخدم الكاتب عبارة شد الخيط مشيراً إلى طريقة شد المتفاعلين على وسائل التواصل الاجتماعية نحو فكرة ما بلحظة محددة، تماماً مثل صياد السمك الذي ينتظر اللحظة المناسبة لسحب خيط سنارته.

** منحت هذه الحادثة الرئيس ليندون جونسون تخويلاً، بدون إعلان حرب رسمي، لاستخدام القوة العسكرية "التقليدية'' في جنوب شرق آسيا. وتحديداً، فإن القرار يخوّل الرئيس أن يفعل كل ما هو ضروري لكي يساعد "أي دولة عضو أو موقعة على پروتوكول حلف الدفاع الجماعي عن جنوب شرق آسيا".

*** ما نكتبه أو نعجب به أو نشاركه على وسائل التواصل الاجتماعية.

 

 

الكاتب: (Peter W. Singer, Emerson Brooking)

المصدر: فورن بولسي (Foreign Policy FP)

تاريخ النشر: 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2018

ترجمة: لينا جبور

مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مداد)

 

 

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات