تولي الحكومة، عبر تصريحاتها، اهتماماً كبيراً بمكافحة الفساد، تحديداً الإداريّ منه، وتُعنى بتطوير آليات العمل في الجهات العامة، ودعم الشفافيّة المؤسساتيّة؛ ذلك استناداً إلى المشروع الوطني للإصلاح الإداري الذي يأتي بحسب ما أعلنته وزير التنمية الإدارية في وقت سابق «استجابةً لتطلعات المواطنين، وتلبية لاستحقاقات المصلحة العامة».

ولكن، تتأتى المشكلة الرئيسة من عدم اهتمام الحكومة بتحديد إطار لهُويّة الاقتصاد، عبر نظام الاقتصاد الكليّ (Macroeconomic System)، إذ تهمل جانباً رئيساً في نظام الاقتصاد الكلي مرتبطاً بالأهداف التي يجب أن تحققها تلك المؤسسات، علماً بأن نظام الاقتصاد الكليّ يتمثل بأهداف السياسة الاقتصادية المتضمنة بتشكيلة من المؤسسات المتخصصة.

نظام الاقتصاد الكلي

يعرّف الباحث المتخصّص في الاقتصاد السياسيّ الدوليّ مارك بليث نظام الاقتصاد الكليّ بأنه «هدف رئيس لسياسة الاقتصاد الكلي للدولة، يتم اختياره، ويشكل على نحو ضروري، الخيارات المؤسساتية في الدولة»، ويقسمه إلى الأهداف السياساتية والأفكار الاقتصادية، ويصفها بـ (Software) النظام، إضافةً إلى المؤسسات المسؤولة عن تطبيق الأفكار الاقتصادية، وتحقيق الأهداف السياساتية، ويصفها بـ (Hardware) النظام.

ترتبط هُوية أي اقتصاد، بتركيبة نظام الاقتصاد الكليّ، ومجمل عمله، ومخرجاته، لذا، فعندما تهتم أي حكومة بالتركيبة المؤسساتية لديها، حريٌّ بها، أولاً، أن تحدد قائمة الأهداف التي تريد تحقيقها، مثل: معالجة مشكلة البطالة في المجتمع، تحسين الوضع المعيشي للمواطنين، دعم التشغيل والانتاج، دفع الدورة الاقتصادية خارج مرحلة الركود، تحديد معدلات التضخم المستهدفة... إلخ، بعد ذلك يتم التعامل مع الهيكلية المؤسساتية وتكييفها بما يخدم تنفيذ مجموعة الأهداف المعلنة، بشرط عدم تعارضها، وهذه مشكلة أخرى بدأت تظهر بقوة لدينا، إذ تعلن الحكومة استهدافها لدعم التشغيل والإنتاج والخروج من الركود، إضافة إلى تحسين الوضع المعيشي للمواطنين عبر تخفيض الأسعار، بشكل رئيس، أي مكافحة التضخم، وهذا تعارض بحكم النظرية الاقتصادية وأدبيات الاقتصاد الكلي.

أمراض داخلية

يدلّ تعارض الأهداف السياساتية، ظاهريّاً، على غياب محددات علميّة وعمليّة لأهداف سياسة الاقتصاد الكليّ لدى الحكومة، إن لم نقل عشوائية تلك السياسة، في حين تشير عميقاً إلى أمراض داخلية في المؤسسة الحكوميّة، متعددة المستويات، منها أمراض مرتبطة بعدم القدرة على تحديد أهداف سياساتية منسجمة من متطلبات المرحلة، وأخرى مرتبطة بالتركيبة المؤسساتية وآلية عملها، والتي أصبحت عملياً قيد الإصلاح حالياً.

فيما يخصّ المؤسسات، يؤكد بليث في دراسة حديثة مشتركة مع الباحث ماتياس ماتيجز بعنوان (البجعات السود، البط الأعرج، وغموض الاقتصاد الكليّ المفقود للاقتصاد السياسيّ الدوليّ) أنَّ الأمراض المؤسساتية داخلية في كل نظام اقتصاد كليّ، وتعمل على تقويضه تدريجيّاً، عبر الزمن، بفعل نشاطها المعتاد، وهذا ما يسمّى بـ «آلية التقويض الذاتيّ» التي تقود إلى وضع جديد للمؤسسات، على أساس هدف جديد للسياسة، ما يتسبب بأمراض جديدة، تقوّض النظام اللاحق... وهكذا.

يقصد بليث وماتيجز بالأمراض المؤسساتية الداخلية؛ تلك الناجمة عن محاولات الضبط والضغط، من أجل الحفاظ على ستاتيكو هُويّة الاقتصاد الكليّ، كنتيجة لتركيبة الأهداف والمؤسسات، ضد التطور الحاصل في الحياة الاقتصادية، والذي يقتضي التعديل والتكيف، الأمر الذي يصل إلى مرحلة تقويض نظام الاقتصاد الكلي القائم، وظهور نظام جديد، بأهداف وتركيبة مؤسساتية جديدة.

ينطبق هذا الحال على جزء مما هو حاصل لدينا، لكون هيكل الأمراض الداخلية أكثر تعقيداً من حالة الضبط للحفاظ على هويّة سابقة للاقتصاد الكلي، ما يضعنا أمام مشكلة «البطة العرجاء»، إذ السياسة العامة للحكومة تجاه الاقتصاد الكليّ هي السبب الرئيس فيما ستؤول إليه الأمور، نظراً لتعارض أهدافها، إثر تجاهل أهمية تحديد أطر هوية للاقتصاد تنسجم مع متطلبات المرحلة، وبالتالي فإن هذه السياسة تتسم بعدم الجدوى، لذا يقال عن هذه المشكلة «البطة العرجاء».

إن استمرار الحال على ما هو عليه، يرفع من فرص حدوث مشكلات من نوع «البجعة السوداء» التي لا يمكن توقعها.

إذن، ما العمل؟

يعدّ المشروع الوطنيّ للإصلاح الإداريّ خطوةً على الطريق الصحيح، باتجاه التعامل مع البنية المؤسساتية العامة، لجهة إمرانها، وتحصينها ضد محاولات التلاعب والفساد، إلا أنها غير كافية، بمعنى الإطار الإصلاحي للسياسات العامة، فيما يخصّ نظام الاقتصاد الكليّ، لجهة تحديد الأهداف والرؤى المنسجمة مع متطلبات المرحلة، دون تعارض، وتوجيه التعامل مع المؤسسات لإخراج بنية تتوافق مع تلك الأهداف، لتحقيقها بجودة عالية.

يمكن الاعتماد على المجلس الاستشاري في مجلس الوزراء، أو تشكيل لجنة موسعة تضم وزراء ورؤساء هيئات وخبراء، مهمتها تحديد أهداف سياسة الاقتصاد الكليّ في سورية طوال المرحلة الحالية، وتكييف البنية المؤسساتية، بما يخدم تحقيق تلك الأهداف، فمثلاً، إذا استهدفت الحكومة دعم الإنتاج والتشغيل والخروج من حالة الكساد وتحسين الوضع المعيشي، فينبغي عليها أن تعيد النظر باستهداف مكافحة التضخم، وتخفيض الأسعار، وتكييف البنية المؤسساتية لتنفيذ تلك الأهداف بفعالية، بالتوازي مع مشروع الإصلاح الإداري الذي يعمل على إمران وتحصين المؤسسات.

ختاماً، إن السياسة الاقتصادية يجب أن تمليها ضرورات وتطورات الواقع العملي، وليس الأمنيات والشّعارات، تحديداً في ظروف استثنائية، كحالة الحرب التي تُشن على سورية منذ سبع سنوات.

 

مركز دمشق للأبحاث والدراسات

 

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات