د. كنان ياغي

مركز دمشق للأبحاث والدراسات

تُعَدُّ السياسة النقدية من أهم أدوات السیاسة الاقتصادیة، إذ بوساطتها یتم التأثیر في المتغیرات الاقتصادیة الكلیة كالتضخم والبطالة والناتج المحلي الإجمالي والنمو الاقتصادي وغیرها. ویكون تحكم السلطة النقدیة (المصرف المركزي) عن طريق قیامها بالمراقبة الفعلیة والحقیقیة للمعروض النقدي، بمختلف الوسائل والأدوات؛ ذلك في ظل الاستقلالیة العالیة التي تتمتع بها السلطة النقدیة، من أجل ضمان سلامة وفعالیة السیاسة النقدیة.

تتجه المصارف المركزيّة غالباً إلى تعديل في أهداف سياساتها النقدية وتحسين الأدوات التي تستخدمها لتنفيذ هذه السياسات، ويصحب ذلك تدعيم استقلالية تلك المصارف، بما يمكنها من تحقيق الأهداف، ليس فقط بدرجة كبيرة من الدقة والفعالية، وإنما أيضاً بمزيد من الشفافية والإفصاح. فمن استخدام أدوات نقدية مباشرة تستهدف متغيرات نقدية يجري التحول نحو استخدام الأدوات النقدية غير المباشرة التي تستهدف السيطرة على معدلات مستقرة للتضخم. ومن سياسات نقدية تتأثر كثيراً بالسياسات المالية إلى استقلالية أكبر للمصارف المركزية في رسم وتنفيذ السياسات النقدية واتفاق كامل حول أهداف السياسة الاقتصادية للدولة. ومن أدوات تقليدية تحكمية لتنفيذ السياسات النقدية تنحصر في سعر الخصم ونسبة الاحتياطي القانوني، بالإضافة إلى تحديد أسعار الفائدة المدينة والدائنة، للتحوّل إلى الاعتماد على عمليات السوق المفتوحة باستخدام الأوراق المالية الحكومية وشهادات الإيداع (الصادرة عن مصرف سورية المركزي لأغراض السياسة النقديّة إن وجدت).

وأخيراً، التحول الجاري بالابتعاد عن التكتم الشديد على أهداف السياسات النقدية، والاقتراب من الإعلان المسبق الواضح والصريح عن الهدف الذي تسعى السياسات النقدية إلى تحقيقه كل عام.

وفي ضوء ما تم الإشارة إليه، لابد بدايةً من محاولة تعريف السياسة النقدية وتحديد استراتيجيتها وأهميتها وأهدافها.

 

 

أولاً- السياسة النقدية

تُعَرَّف السياسة النقدية بأنها مجموعة الإجراءات والمبادرات التي تتخذها السلطات النقدية لإدارة العرض النقدي وسعر الفائدة وسعر الصرف والتأثير في شروط الائتمان لتحقيق أهداف اقتصادية معينة، ولتحقيق هذه الأهداف تستخدم المصارف المركزية في العادة عدداً من الأدوات النقدية لتمكنها من التدخل لإدارة المعروض النقدي ولمراقبة العمليات الائتمانية للبنوك التجارية، وفقاً للأهداف المطلوب تحقيقها. كما قسّم الباحثون في مجال النظرية النقدية الأدوات التي تستخدمها المصارف المركزية إلى نوعين مختلفين وفقاً لطبيعة كل منها، النوع الأول: أدوات نقدية مباشرة (Direct) والنوع الثاني: أدوات نقدية غير مباشرة (Indirect). وسيرد في هذه الورقة لاحقاً عرضاً لأهم الأدوات التي تستخدمها المصارف المركزية في إدارتها للسياسة النقدية.

 

 

ثانياً- استراتيجية السياسة النقدية في سورية

يتمركز عمل وتأثير السياسة النقدية في أي اقتصاد حول حقيقة أساسية تتجلى في كون المصرف المركزي هو المصُدر الوحيد للعملة والمسيطر على احتياطيات المصارف التجارية، واستناداً إلى ذلك فإن لديه القدرة على التأثير في السوق النقدية وتحديد أسعار الفائدة قصيرة الأجل.

كما أنَّه لا بدّ للسياسة النقديّة –كأيّة سياسة اقتصاديّة– من أن تُحدِّد استراتيجية واضحة. وتتألف استراتيجية السياسة النقدية على الصعيد التطبيقي من مجموعة من الأهداف النهائية والوسيطة والتشغيلية، وغالباً ما يرتكز الهدف الرئيس للسياسة النقدية على الحفاظ على معدل تضخم منخفض ومستقر، وبما أن المصارف المركزية لا تستطيع أن تسيطر على التضخم بشكل مباشر (إذ إنها لا تستطيع أن تضع أسعاراً للسلع والخدمات)، فإن عليها أن تهيئ متغيرات ذات ارتباط قويٍّ وفعال بشكلٍ كافٍ مع التضخم، واستخدام أدواتها النقدية لتحقيق هذا الهدف.

وهنا تبرز أهمية ما يسمى بانتقال الأثر وقنوات انتقال الأثر (Transmission Mechanism Channels)، إذ تبدي المصارف المركزية اهتماماً كبيراً بآليات نقل الأثر النقدي؛ ذلك بهدف التحليل الدقيق لأثر التغيرات في أدوات السياسة النقدية على الأهداف النهائية في سياق تطبيق السياسة النقدية.

وانطلاقاً من ذلك فقد تم التأكيد على ضرورة تبني مصرف سورية المركزي إطار واضح للسياسة النقدية وتطبيقه بشكل تدريجي لتوجيه عملية تنفيذ السياسة النقدية على المدى المتوسط بما ينسجم مع التوجه الاستراتيجي للسياسة الاقتصادية للبلاد. وبناءً عليه، نقترح تحديد استراتيجية زمنية للسياسة النقدية تقوم على الآتي:

  • تبنّي هدف نهائي طويل المدى يتمثل بالعمل على استقرار الأسعار ومكافحة التضخم.
  • استهداف سعر الصرف على المدى المتوسط، وصولاً لتحقيق الهدف النهائي.
  • تفعيل أدوات السياسة النقدية غير المباشرة على المدى القصير الأجل.

 

 

وبغية إدارة السيولة بشكل فعال في سورية، لا بد لمصرف سورية المركزي من أن يستخدم في إدارته للسياسة النقدية (غير المباشرة) توليفة من الأدوات النقدية غير المباشرة ومنها عمليات السوق المفتوح والتسهيلات القائمة ومتطلبات الاحتياطي الإلزامي، إذ يرتبط المحددُ الأساسُ لخلق الأدوات غير المباشرة للسياسة النقدية بقرارات تصدر عن المصرف المركزي تحدد المستوى الملائم لمعدلات الفائدة على الأجل القصير لديه.

ويبرز هنا تساؤلان: الأول، يرتكز حول ما هو المستوى الدقيق المحدد لمعدلات الفائدة قصيرة الأجل في السوق النقدية المحلية، أما التساؤل الرئيس الآخر، فيتمثل بماهية الآلية المثلى التي ينبغي أن تتغير وفقها معدلات الفائدة قصيرة الأجل في حالة انحراف معدل التضخم عن المعدل المستهدف؟

 

 

ثالثاً- أهداف السياسة النقدية

بشكل عام يتمثل دور المصارف المركزية (كسلطة نقدية) في الاقتصاد بما يلي:

  1. مراقبة عرض النقد والسيطرة على القوة الشرائية للعملة المحلية.
  2. المحافظة على استقرار الأسواق النقدية والمالية عن طريق المحافظة على سلامة الجهاز المصرفي وضمان فاعليته وكفاءته والمحافظة على الثبات النسبي لأسعار الفوائد.
  3. القيام بدور المقرض الأخير بوساطة عمليات إعادة الخصم وعمليات إعادة الشراء. لهذا فالبنوك بشكل عام يجب ألا تلجأ إليه، إلا عندما تنضب مصادرها المالية المتاحة لها في الأحوال الطبيعية.
  4. المحافظة على كفاءة نظام المدفوعات والذي يشمل أساليب التحويل بين البنوك وعمليات المقاصة التابعة لها، إذ يسهم نظام المدفوعات في تنشيط دورة النقود بين كافة القطاعات الاقتصادية.

كما قد تختلف السياسة النقدية من دولة لأخرى، كما أنها قد تختلف في الدولة الواحدة في مراحل زمنية مختلفة تبعاً لمستوى التقدم والنمو الاقتصادي والاجتماعي والظروف التي أدت إلى ظهور هذه الأهداف. وتتحدد الوظيفة النهائية للسياسة النقدية في سورية عن طريق تولي مصرف سورية المركزي المهام الآتية:

  1. تحقيق الاستقرار في الأسعار أو بمعنى آخر محاربة التضخم: يكون ذلك عن طريق توجيه الائتمان نحو الاستثمار الحقيقي والابتعاد عن الضغوط التضخمية.
  2. تحقيق الاستقرار في أسعار الصرف: يزيد هذا الأمر من الثقة بالعملة المحلية، ويرتبط هذا الهدف مع الهدف الأول في استقرار الأسعار الداخلية، ففي حالة انخفاض الأسعار في دولة ما، يؤدي ذلك إلى زيادة الطلب الأجنبي على عملة ذلك البلد، لأن الطلب على العملة الوطنية هو طلب مشتق من الطلب على السلع والخدمات الوطنية. ويحدث العكس في حال ارتفاع الأسعار الداخلية، إذ يقلّ الطلب على العملة الوطنية وينخفض سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأخرى. لهذا، فإن قيام السلطة النقدية في تحقيق الاستقرار في الأسعار الداخلية يؤدي إلى تحقيق الاستقرار في سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأخرى.
  3. العمل على تخفيض معدلات البطالة إلى أقصى حدٍّ ممكن؛ وذلك بتشجيع السلطة النقدية على تمويل المشروعات الاقتصادية التي يمكن بوساطتها خلق فرص عمل للعاطلين، فيسهم ذلك في رفع مستوى الاستثمار وتخفيض حجم البطالة.
  4. تشجيع النمو الاقتصادي: وهو هدف تسعى إليه جميع السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية في البلاد، ويقصد به تحقيق زيادة مستمرة في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي أو متوسط دخل الفرد الحقيقي، إذ تأتي فاعلية السياسة النقدية في تشجيع النمو بفعل تأثيرها في الاستثمار وفي الاحتياطيات النقدية للمصارف المرخصة.
  • يتحدد دور مصرف سورية المركزي بالوظيفة الوسيطة في متابعة أثر نمو كمية النقود في الهدف النهائي وهو (استقرار الأسعار) مقاساً بمعدل النمو في مستوى السيولة المحلية M2 وكمعبر عن المعروض النقدي بمعناه الواسع في سورية ونظراً لعلاقة الارتباط الوثيقة بين كمية النقود ومعدلات التضخم.
  • يتحدد دور مصرف سورية المركزي في الوظيفة التشغيلية بتحقيق السيطرة على معدلات نمو السيولة المحلية عن طريق التأثير غير المباشر في العوامل الأساسية المؤثرة في درجة الاستقرار النقدي، وأهمها التأثير في توجهات أسعار الفائدة الاسمية في سوق النقد السوري في الأجل القصير.

 

 

رابعاً- أدوات السياسة النقدية

لكي يستطيع مصرف سورية المركزي العمل على تحقيق أهدافه القصيرة والتشغيلية وطويلة الأجل، لابد من أن يمتلك مجموعة من الأدوات النقدية، وهي:

  1. الأدوات المباشرة للسياسة النقدية

وهي الوسائل التي تكون موجَّهةً من قبل السلطات النقدية لإدارة السياسة النقدية بشكل مباشر، وتأخذ صفة التدخل المباشر بقصد التأثير في حجم الائتمان دون الاهتمام بمركز الاحتياطي النقدي الفائض أي الرقابة المباشرة على تنظيم الائتمان، إذ تتميز هذه الأدوات بانخفاض تكاليفها المالية المباشرة وهي وسيلة سهلة للحكومة لتوجيه الائتمان نحو تحقيق أهداف محددة وهي ملائمة للبلدان التي تكون فيها الأنظمة غير تنافسية، وفي المقابل فإن استخدام هذه الأدوات يؤدي إلى قيام هيكل متعدد لأسعار الفائدة وزيادة مفرطة في السيولة، ولن يكون هناك ضمان بأن التسهيلات الائتمانية ستقدم للأغراض المحدد لها، إضافة إلى وجود صعوبة في تطبيق هذه الأدوات على عدد من البنوك التي تختلف فيما بينها اختلافا كبيراً من حيث هيكل موجوداتها ومطاليبها.

ومن هذه الأدوات:

  • أسعار الفائدة: فقد تتعمد السلطات النقدية إلزام المصارف التجارية مباشرة بأسعار فائدة يتم تحديدها بوساطة المصرف المركزي على كل من الودائع والقروض.
  • سقوف ائتمانية: إذ تقوم السلطات النقدية بفرض سقوف ائتمانية على شكل نسب معينة على حجم الائتمان الممنوح لبعض القطاعات الاقتصادية أو جميعها، بحيث يتعين على المصارف عدم تجاوزها.

وفي الحقيقة يتحدد الهدفان الأساسان من استخدام أدوات الرقابة المباشرة في:

أولاً- التأثير في تكلفة الإقراض لدى البنوك التجارية، سواء أكان ذلك بالزيادة، أم بالنقصان، وبما يتيح الفرصة للتأثير في حجم الائتمان، إما للحد منه أو للتوسع فيه.

ثانياً- إتاحة الفرصة لدعم بعض القطاعات الهامة أو الحساسة داخل الدولة بإعطائها ميزات تفضيلية في الاقتراض من المصارف لتغطية احتياجاتها التمويلية.

 

  1. الأدوات غير المباشرة للسياسة النقدية:

تنبع أهمية استخدام الأدوات النقدية غير المباشرة التي تعتمدها السلطة النقدية من ضرورة توجيه السوق بعيداً عن التدخل المباشر في السوق والذي يؤدي إلى خلق تشوهات عميقة (مثل استخدام التحديد الإداري لأسعار الفائدة أو سقوف الائتمان)، وبالتالي تحقيق الأثر المرغوب وتوضيح موقف السياسة النقدية بهدف زيادة قدرة المصرف المركزي على السيطرة على اتجاهات المتغيرات النقدية التي تؤثر في الأهداف الوسيطة والنهائية للسياسة النقدية.

ويدخل تحت هذا النوع من الأدوات كل من عمليات السوق المفتوحة، وسعر الخصم، ونسبة الاحتياطي الإلزامي، والاحتفاظ بودائع لدى البنك المركزي مقابل عائد، والتعامل في بيع وشراء العملات الأجنبية... إلخ. وهذه الأدوات هي:

أولاً- الاحتياطي القانوني (Required Reserve)

يقوم البنك المركزيّ بإلزام البنوك التجارية بالاحتفاظ بنسبة معينة من الودائع كاحتياطي قانوني، إذ لا يمكن للبنك التجاري التصرف بهذا المبلغ. وتسمى هذه النسبة بنسبة الاحتياطي القانوني أو الاحتياطي المطلوب (Required Reserve Ratio).

ثانياً- عمليات السوق المفتوحة (Open Market Operations)

ويمكن أن نعرف عمليات السوق المفتوحة (OMO) بقيام المصرف المركزي بشراء وبيع الأوراق المالية الحكومية سواء أكان ذلك على نحوٍ مباشر، أم عن طريق سوق المال قصير الأجل (Money Market)؛ ذلك بهدف التأثير في الاحتياطيات الفائضة لدى البنوك التجارية بالزيادة أو النقصان، ما يؤثر في كل من حجم الائتمان وحجم المعروض النقدي وبالشكل الذي يتماشى مع الأهداف الاقتصادية للدولة. بالإضافة إلى محاولة التغلب على أية تقلبات موسمية أو عرضية قصيرة الأجل في حجم المعروض النقدي والناتجة عن عوامل السوق.

  • ومن أهم ميزات عمليات السوق المفتوحة الآتي:

المبادرة: فالمصرف المركزيّ هو الوحيد الذي يستطيع التحكم بأدوات عمليات السوق المفتوحة، وأن يقرر مسبقاً كمية المبالغ التي تستوجب سحبها أو ضخها في السوق.

المرونة: فعمليات السوق المفتوحة تعطي للمصرف المركزي قدراً كبيراً من التحكم في اختيار الوقت وكمية المبالغ التي سوف يطرحها أو يسحبها من السوق.

التعديل والسرعة: إذ يستطيع المصرف المركزي في أية لحظة اتخاذ إجراءات تصحيحية للسوق بوساطة دخوله بائعاً أو شارياً للأوراق المالية، دون الرجوع إلى إجراءات إدارية معقدة تمكنه من تحقيق الهدف المرجو بسرعة وفاعلية.

  •  أدوات عمليات السوق المفتوحة

التداول الفوري عن طريق شهادات الإيداع أو شهادات الدين: وتعرف شهادة الإيداع بأنها ورقة مالية قابلة للتداول تبين أن مبلغاً من المال قد أودع لدى الجهة المصدّرة للورقة لأجل معين وبسعر فائدة معين؛ ذلك أنَّ المصرف المركزيّ يلجأ إلى استخدامها لامتصاص السيولة الفائضة وتباع هذه الشهادات بطريقة المزاد، إذ يتقدم البنك التجاري الراغب في الدخول في المزاد بتحديد الكمية المطلوبة وسعر الفائدة الذي يعدّه العائد الجيد بالنسبة له.

  • عمليات شراء للأذونات والسندات الحكومية:

وتكون علاقة تداول مباشرة بين المصرف المركزي ووزارة المالية، فعندما تقوم وزارة المالية بإصدار هذه السندات، فإن باستطاعة المصرف المركزي أن يقوم بشراء جزء من هذه السندات من السوق الأولية (Initial Public Offering)، أو يقوم بعمليات البيع والشراء مباشرة بينه وبين المتعاملين الرئيسين (Primary Dealers) في السوق الثانوية (Secondary Market).

  • عمليات مبادلة القطع الأجنبي (FX Intervention):

وهي عمليات بيع أو شراء عملة أجنبية معينة مقابل العملة المحلية، وعادة ما تكون هذه العملية بشكل تداول فوري (Spot). إذ يستخدم المصرف المركزي هذه الأداة لضخ أو سحب السيولة في الأسواق المحلية للتأثير في أسعار الفوائد وفي سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية.

  • عمليات الاحتفاظ بودائع لأجل لدى البنك المركزي مقابل عائد: وعادة يتم تنفيذها على شكل مزادات (عروض أسعار).

 

 

 

ثالثاً- التسهيلات القائمة (Standing Facilities)

تتضمن التسهيلات القائمة الحديثة كلّاً من الوديعة لليلة واحدة (Overnight Deposit) والتسهيلات الائتمانية الممنوحة للمصارف لليلة واحدة (Overnight Loan) أو نافذة خصم (Discount Window) وقد تصل إلى أسبوع؛ ذلك بسبب وجود سعر فائدة غير مرضٍ لهذه المصارف (Penalty). وتستخدم هذه الأدوات بهدف تشجيع المصارف على تمويل عجزها من السيولة واستثمار الفائض لديها في الأسواق النقدية بعيداً عن اللجوء إلى المصرف المركزي (إذ يقتصر دور المصرف المركزي هنا كملجأ أخير للإقراض)، ويمكن توضيح هذه الأدوات بشيء من التفصيل على النحو الآتي:

  • اتفاقات إعادة الشراء (نافذة الإقراض)

يقوم المصرف المركزي وعند حاجة البنوك التجارية إلى سيولة مؤقتة بتحديد سعر فائدة إعادة الشراء (Repo Rate) وبكمية الأوراق المراد شراؤها من قبل المصرف المركزي. وقد سميت هذه الأداة بهذه التسمية، لأنَّ البنك البائع للأوراق يقوم بالتعهد بإعادة شرائها بعد مدّة متفق عليها، ونادراً ما تمتد إلى أكثر من شهر، وتكون نتيجةُ تفعيل هذه الأداة ضخ السيولة اللازمة في السوق، ويمكن أن يتم تنفيذ هذه العمليات عن طريق عطاءات أو اتفاقات ثنائية وفي مواعيد وبإجراءات تعلن مسبقاً للجهات المعنية.

  • عمليات إعادة الشراء (العكسية) - ( نافذة الإيداع ) - (Deposit Window)

تُعَدُّ نافذة الإيداع من التسهيلات القائمة التي يوفرها المصرف المركزي، وتسمح هذه الأداة للبنوك التجارية بإيداع فائض السيولة لديها وبأسعار فائدة أقل من سعر الفائدة السوقي. يتم ذلك عن طريق قيام المصرف المركزي ببيع ما لديه من أوراق مالية حكومية للسوق مقابل أن يقوم البنك المرخص بإيداع المبلغ المقابل لدى المصرف المركزي، ويكون نتيجة تفعيل هذه الأداة سحب السيولة الفائضة من السوق.

رابعاً- سعر الخصم (Discount Rate)

يُعَدُّ سعر الخصم من الأدوات التي يلجأ إليها المصرف المركزي للتأثير في حجم المعروض النقدي؛ ذلك في إطار الأهداف المرسومة للسياسة النقدية، وتقوم البنوك التجارية بالاقتراض من المصرف المركزي الذي يقوم بدوره بفرض سعر فائدة معين يسمى بسعر الخصم، ويكون غالباً أعلى من سعر الفائدة السوقي؛ ذلك بهدف تشجيع المصارف على تأمين حاجتها من السيولة بعيداً عن المصرف المركزيّ.

إذ يستخدم كلاً من نافذة الخصم ونافذة الإيداع لتوجيه أسعار الفائدة على المدى القصير ضمن حدود مستهدفة لتحقيق أهداف السياسة النقدية، عن طريق ما يعرف بـ نظام المنافذ Corridor System.

أخيراً، وبالمقارنة مع الأدوات المتاحة لمصرف سورية المركزيّ، يمكن التوصل إلى أن هناك أداة واحدة فقط في يد المصرف المركزي متاحة للاستخدام وهي أقل الأدوات السابقة مرونة، أعني بها الاحتياطي الإلزامي، في حين قد تم تحرير الفوائد المدينة بالكامل، وأصبحت الفوائد الدائنة تأشيرية وغير ملزمة للمصارف بحكم الهامش الكبير الذي أعطاه المصرف المركزي للمصارف التجارية في التحرك ضمنه. وبالتالي عملياً فإن المصرف المركزي فَقَدَ الأداة المباشرة الفعالة والوحيدة للتأثير في معدلات الائتمان في السوق المصرفي. ومن دون تفعيل الأدوات النقدية غير المباشرة الأخرى. ومن هنا تأتي أهمية تفعيل الأدوات النقدية غير المباشرة للمصرف المركزي بهدف تعزيز دور المصرف المركزي في إدارته للسيولة بغية تحقيق الأهداف التي يعمل على تحقيقها.

 

 

خامساً- متطلبات توفير البيئة المناسبة لعمل الأدوات النقدية غير المباشرة في سورية

الخطوة الأولى: سحب السيولة الفائضة في السوق

تعاني المصارف العاملة من الارتفاع الكبير في مستوى الاحتياطيات بالعملة المحلية الفائضة لديها، فهي تعادل أضعاف حجم الاحتياطي الإلزامي بعدة مرات، في حين أن المستوى المعياري المقبول على مستوى الدول ذات الاقتصاديات المتحولة يعادل أقل من 35% من الاحتياطي الإلزامي.

إن وجود آلية فعالة لسحب السيولة الفائضة من السوق تُعَدُّ ضرورة ملحة جداً في الوقت الحالي، وهذا يتطلب بشكل رئيس تحويل السيولة الفائضة إلى ما يدعى بصافي أدوات السوق المفتوحة، وسوف نقدم مقترحين لسحب هذه السيولة.

  • قيام مصرف سورية المركزي بإصدار سندات دين خاصة به (شهادات إيداع) يقوم بإحلالها مكان الاحتياطيات الفائضة الموجودة لدى المصارف والتي سوف تمثل أدوات سوق مفتوحة سالبة (في جانب المطاليب من ميزانية المصرف المركزي). ويجب أن يتم إصدار شهادات الإيداع الخاصة بالمصرف المركزي بطريقة المزايدة التقليدية.
  • يمكن أن يقوم مصرف سورية المركزي بتحويل الاحتياطيات الفائضة إلى ودائع لأجل ذات عائد، ويمكن جمع هذه الودائع باستخدام آلية المزايدة (Auction).
  • حل يتمثل بمجموعة من الحلين السابقين.

الخطوة الثانية: العمل على إنشاء ما يسمى بالتسهيلات القائمة (Standing Facility)

تتضمن التسهيلات القائمة الحديثة الوديعة لليلة واحدة (نافذة الإيداع) والتسهيلات الائتمانية للمصارف التجارية (نافذة الخصم) بسعر فائدة غير مرضٍ للمصارف إذا تمت مقارنته بأسعار الفائدة السائدة في السوق، والقاعدة أن أسعار الفائدة على الودائع لليلة واحدة هي أقل من سعر الفائدة السوقي في حين تكون أسعار الفائدة على نافذة الخصم أكبر بقليل؛ ذلك بهدف تشجيع المصارف على تمويل العجز في السيولة واستثمار فوائض السيولة في الأسواق النقدية بعيداً عن اللجوء للمصرف المركزي (إذ يقتصر دور المصرف المركزي كملجأ أخير للإقراض).

بالإضافة إلى أن أسعار الفائدة المستخدمة من قبل المصرف المركزي عن طريق التسهيلات القائمة تزود السوق النقدية بسعر الفائدة على المدى القصير عن طريق تحديدها لسعر الفائدة الأدنى والأعلى، فإذا قام المصرف المركزي بتغيير مستويات أسعار الفائدة المحددة لهيكلية أسعار الفائدة (Interest rate corridor)، فإن سعر الفائدة السوقي على المدى القصير سوف يتبع تلك التغيرات. وإذا ما أخذنا بالحسبان التوقعات المستقبلية للسوق بخصوص قرارات أسعار الفائدة المستقبلية، فإن أسعار الفائدة الطويلة الأجل سوف تتأثر أيضاً.

الخطوة الثالثة: استراتيجية التنبؤ بحجم السيولة الفائضة في السوق

إذا أراد مصرف سورية المركزي العمل على سياسة نقدية مرتكزة على أسس السوق، فهو يحتاج إلى تقدير حجم صافي الطلب على السيولة ليتسنى له تحديد حجم السيولة اللازم سحبها أو ضخها في السوق النقدية باستخدام عمليات السوق المفتوحة. إن أكثر المناهج استخداماً وشيوعاً في هذا الإطار هو مدخل الميزانية العمومية والذي يرتكز على تعريف وتحديد العوامل المستقلة (البنود المناظرة) من ميزانية المصرف المركزي والتي تمثل:

العوامل المستقلة = النقد المصدر + الودائع الحكومية + صافي البنود الأخرى – صافي الموجودات الأجنبية – الديون المقدمة للحكومة – الديون المقدمة للمصارف

ومن ثم وضع الأدوات اللازمة للتنبؤ بكل عاملٍ من هذه العوامل على حِدَتِهِ. ولكن تطبيق مدخل الميزانية العمومية للتنبؤ بحجم السيولة يحتاج إلى ما يسمى بالمتطلبات التحضيرية الآتية:

  • التوقيت الجيد وإمكانية الحصول على البيانات المحاسبية الدقيقة والكافية: فإدارة السيولة تتطلب بيانات موحدة ومحدثة ومتوافرة بشكل يومي، قبل وقت محدد مسبقاً وفي كل صباح، وهو ما ليس متوافراً لدى مصرف سورية المركزي إلى الآن.
  • كشوفات الحسابات اليومية يجب أن توفر البيانات على أساس التدفق ((Flow: وهذا يعني أنَّ الموجودات والمطاليب يجب أن تقوم على أساس معدل المعاملات، وتسجل كتسوية في حركة الأموال. مع الإشارة إلى أن بعض عمليات إعادة التقييم يجب أن يتم اجتنابها، لأنها لا تمثل تدفقات نقدية.

 

الخطوة الرابعة: تفعيل عمل لجنة السياسة النقدية: والتي تقوم بغرضين رئيسين:

  • مساعدة مجلس النقد والتسليف في اتخاذ قرارات السياسات النقدية، إذ يتوجب على هذه اللجنة الاجتماع بشكل دوري لتبادل المعلومات ووجهات النظر حول أحدث التطورات في الأسواق وحول الإجراءات التي يتوجب اتخاذها.
  • تهدف هذه اللجنة على المدى الأطول إلى تعميق المعرفة، وتحليل الأسواق، وإبداء بعض الاقتراحات في مجال السياسة النقدية والأسواق المالية.

المواضيع الأساسية التي يجب مناقشتها في الاجتماعات الدورية لهذه اللجنة يجب أن تتضمن ما يأتي:

  • التطورات والنشاطات التي يقوم بها المصرف المركزي على مستوى السوق المحلية (السيولة).
  • التطورات المختلفة والطارئة على أسعار الفائدة والعمليات التي يقوم بها المصرف المركزي.
  • التطورات والنشاطات التي يقوم بها المصرف المركزي في مجال أسواق القطع الأجنبيّ.
  • التطورات في الأسواق السلعية (الذهب والنفط).

وعلى أساس هذه التوصيات، فإن بعض الاقتراحات يمكن أخذها بالحسبان لاتخاذ القرارات في مجال السياسة النقدية.

الخطوة الخامسة: تأسيس مجلس تنسيقي للسياسة المالية والنقدية

يهدف هذا المجلس إلى تعزيز التنسيق والتناغم بين أهداف السياستين المالية والنقدية. ويضم رئيس الحكومة وحاكم مصرف سورية المركزي والسيد وزير المالية وخبيرين مستقلين. ويهدف هذا المجلس إلى:

  1. تحقيق أعلى درجات التناغم والتوافق بين السياستين المالية والنقدية في البلاد.
  2. يلعب المجلس دور همزة الوصل بين الحكومة والمصرف المركزيّ؛ ذلك لإحداث التناغم بين السياستين المالية والنقدية.
  3. تقديم الاستشارات التي تمكِّن كلا الطرفين من ضبط إيقاع السوق المالية.
  4. وأخيراً بث الطمأنينة في نفوس المستثمرين والمؤسسات الدولية، عبر ضم شخصيات ذات كفاءة وخبرة عالية للمجلس.

إن دور المجلس التنسيقيّ سيختلف بلا شك عن اجتماعات مجلس النقد والتسليف، أو حتى اجتماعات لجنة إدارة المصرف المركزي، حيث أن المجلس التنسيقيّ هو المجلس الوحيد الذي يجمع رئيس الوزراء ووزير المالية وحاكم المصرف المركزي مع خبراء اقتصاديين؛ ذلك بهدف تحقيق التناغم بين السياستين المالية والنقدية، ومنع أيّ قرارات متعارضة، بما ينعكس إيجاباً على معدلات النمو الاقتصاديّ. كما يُعَدُّ همزة وصل هامّة بين «المركزيّ» والحكومة، للعمل على رسم أطر عامة للتحرك فيها، لافتاً إلى أن عملية التنسيق تساعد على تسريع وتيرة الإصلاحات، بدلاً من العمل في جُزُر منفصلة. كما أن دور المجلس لا يتعارض مع دور «المركزيّ»، ولا سيما أن الأخير هو المَعنيُّ بتنفيذ السياسة النقدية، بينما يتمثل دور المجلس في وضع توصياتٍ من شأنها زيادة التناغم بين السياسات المالية والنقدية، على اعتبار أن وجود ممثل عن وزارة المالية في مجلس النقد والتسليف غير كافٍ لإحداث التنسيق بين السياستين المالية والنقدية، إذ إنَّ الموضوع سيصبح مختلفاً في حالة اجتماع الوزراء المعنيين مع حاكم المصرف المركزي.

كما أن اللجنة التنسيقية لن يتعارض عملها مع عمل اللجنة الاقتصادية التي تجتمع بشكل دوريٍّ، وستحقق قيمة مضافة حال تفعيل عملها بشكل منتظم، وأن هدف المجلس هو لمناقشة موضوعات محددة تخص السياستين المالية والنقدية للدولة، فيما تضم اللجنة الاقتصادية عدداً واسعاً من حقائب الوزارات الاقتصادية، إلى جانب حاكم مصرف سورية المركزي فقط؛ لمناقشة النواحي الاقتصادية من منظور أوسع.

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات