العالم الافتراضي، مصطلح سوّق له الغربيون "مصدرو فكرة العولمة" في أواخر القرن الماضي، التي ستجعل كوكبنا هذا قرية صغيرة، يستطيع قاطنوه التواصل مع بعضهم البعض بسهولة رغم المسافات الشاسعة، والحصول على أي معلومة يريدونها بأيسر وأسرع طريقة لإجراء الأبحاث وتنمية القدرات الثقافية الذاتية، وغير ذلك...، ومع دخولنا الألفية الثالثة، خطا العلم أطواراً متقدمة، ولاسيما في مجال الإعلام والاتصالات، ومما لاشك فيه أن هذا "العالم الافتراضي"، بات أمراً واقعاً تعيشه حتى الدول النامية، فقد تنوعت وسائل التواصل عبر الشبكة العنكبوتية العالمية، مثل (أجهزة الحواسيب الحديثة بأنواعها، أجهزة الاتصال، مواقع التواصل الاجتماعي)، وحديث الواقع لا ينكر وجود ايجابيات لهذا العالم الافتراضي، لكننا في الوقت ذاته لا يمكننا إنكار سلبياتها الخطيرة، التي لا تناسب بعض المجتمعات (المجتمعات الشرقية مثلاً).

"العالم الافتراضي" كان بوابة الغربيين للتسلل إلى عمق مجتمعاتنا، والقيام بتحول نوعي فيها نحو "الأسوأ"، فكان من أبرز تأثيراته استهداف الفئة الشابة وخاصة اليافعين منهم، فترى أعداداً ليست بقليلة من أولئك الشباب انصاعوا لبراثن التقنيات الحديثة، وقضاء معظم أوقاتهم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي والانترنت، ووصل الأمر بهم لحد الإدمان، وأثر هذا سلباً بنسب مخيفة على نفسيتهم وتفكيرهم، فهؤلاء انعزلوا عن الحياة الاجتماعية الواقعية، وتقوقعوا في عالمٍ افتراضي.

ولهذا العالم الافتراضي أخطار حقيقية ليس فقط على الشباب وإنما على المجتمع بأكمله، من سيادة  العزلة والجمود في المجتمع، وفقدان التفاعل الاجتماعي بين أبنائه وتحصيلهم العلمي والدراسي باعتمادهم على المعلومة السهلة البعيدة عن الثقافة الحقيقية العميقة.

ناهيك عن المشاكل الأسرية بين الآباء والأبناء من جهة، والأزواج والزوجات فيما بينهم، نتيجة قضاء بعضهم أغلب أوقاته على الانترنت، وتقصير في واجباته تجاه الآخر، مع غرس بذور الشك في نفوسهم ما يخلق مشاكل أسرية هم بغنى عنها، فالانترنت الذي قرّب البعيد بيد أنه بعد القريب، وبات من يسكن البيت الواحد غرباء، لكل واحد عالمه الخاص.

مما سبق نستطيع تخمين أن  هذا العالم فعلاً بات بؤرة لإفساد مجتمعاتنا، والسبب الرئيسي يعود لفقدان الرقابة الأسرية للأبناء فيما يتعلق باستخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي والانترنت بشكل مستمر  من جهة، ولجوء آخرون من فئات عمرية مختلفة لهذا العالم هروباً من واقعهم (أولئك الذين يشعرون بنقصٍ بشخصيتهم)، لإثبات أنفسهم في عالم أشبه بخيال يتقمصون فيها أدواراً وأفكاراً لا تمت إليهم بصلة مطلقاً، وهؤلاء هم أكثر عرضة للإحباط في الحياة الواقعية لعدم قدرتهم على مواجهة تحديات الحياة، وكما أن متابعة البعض من الأشخاص وخاصة المراهقين منهم لصور وفيديوهات منشورة في تلك المواقع تظهر فيها الأوقات المرفهة والسعيدة لأناس ربما لا يعرفونهم حتى تأثر على نفسيتهم وتكون سبباً لشعورهم بالاكتئاب والإحباط أيضاً، وشعورهم أيضاً بحالة من النقص نتيجة الغيرة التي تولد عندهم إزاء تلك الصور أو المشاهد، وكما للبطالة دور للجوء بعض الشباب للعالم الافتراضي لإملاء مساحة الفراغ الكبيرة لديهم، وفي الآونة الأخيرة لاحت في الأفق ظاهرة البحث عن المال وجنيه عبر صفحات التواصل الاجتماعي، من خلال ما يسمى بالتسويق الإلكتروني، حيث يقضي بعض الشباب والشابات على وجه الخصوص أوقاتهم في تلك  الصفحات بهدف بيع سلعة تجارية لا يفقهون عنها وعن مروجيها شيء، والهدف جني الأموال، متجاهلين مدى الخطورة الأذى التي يمكن تلحق بهم جراء ذلك، وما إن بحث متابع عن مساوئ وسلبيات وخطورة هذا العالم لوجد أنها لا تعد ولا تحصى.

ألا يجدر بنا أن نكون واقعيون حتى عند استخدم وسائله، والبحث عن ما يهمنا ويطور تفكيرنا وذاتنا بالفعل، ألا يجدر بنا كآباء وأمهات توجيه النصح لأبنائنا عن كيفية وتوقيت استخدم الانترنت، وهل يجوز أن نكون سبباً في دمارهم فكرياً وأخلاقياً عندما نفسح المجال لهم ما يفعلونه،  نحن كمجتمعات عريقة بعاداتها وتقاليدها، وتجمع عوائلنا الألفة والمحبة في زياراتنا لبعضنا البعض وفي ليالي السمر، أن تتحول جلساتنا التي تسودها الضحك والأحاديث الشيقة إلى جلسات صامتة، مستسلمة لغياهب العالم الافتراضي عن طريق الهواتف الذكية التي بجعبتنا باحثين عن "الحداثة والتطور"، السؤال الطارح لنفسه، لِمَ لا يستخدم الأوروبي أو الأمريكي الهواتف الذكية، ويكتفون بهواتف بسيطة، وفي الوقت ذاته نسمع ونشاهد على وسائل إعلامنا أن معهداً أو مركزاً لأبحاث علمية لديهم قد توصل لاكتشافات علمية تفيد البشرية أو اخترعوا شيء ما، ونحن ماذا نفعل، ماذا يفعله البعض من الفئة الشابة؟!، ما يفعلونه، "الانتظار بفارغ الصبر" ما سيصدرونه لنا من تكنولوجيا جديدة، أو عادات وتقاليد بعيدة كل البعد عن عاداتنا وقيمنا الأخلاقية العريقة، أمجتمعنا تمثله ويعنيه ما تسمى "برقصة الكيكي" أو لتسريحة شعر معينة أو...،  لِمَ الاستسلام والانصياع لهذا الغزو الفكري والأخلاقي الذي يبثه الغرب "مخترعو العولمة" إلى مجتمعاتنا عبر هذا العالم الافتراضي، هل نسينا أن أرقى الحضارات والعلوم انطلقت من منطقتنا،  كحضارات أوغاريت التي علمت العالم معنى الأبجدية وفينيق وغيرها...، لكن السؤال الذي آمل أن أجد له جواباً إلى متى سيلتهم العالم الافتراضي واقعنا إلى متى؟!.

 

سيريا ديلي نيوز _ موسى حاج عبدو


التعليقات