مواسم الخير مصطلح دارج في أدبيات الفلاحين ، نحتفي به نحن أيضاً في وسائل الإعلام، وبالفعل هو مصطلح مثير للتفاؤل في بلد يقوم أمنه الغذائي على قطاع الزراعة.

إلّا أن اللافت هو تحوّل “مواسم الخير” إلى مواسم أزمات مع نضوج كل محصول، فالكساد الممزوج بصراخ الفلاح بالمرصاد لنا دوماً، وهذه مشكلة “عويصة” في الواقع، يبدو أننا تعايشنا معها بدلاً من الاستنفار لحلّها، وهي تكشف عورات سلسلة من الجهات الحكومية ولا يقتصر الخلل في جهة واحدة.

في سياق هذه المعمعات المتكررة يظهر اسم “السوريّة للتجارة” كشمّاعة لتعليق فشل الجهات الأخرى في إدارة وتسويق الإنتاج، ثم عشوائيّة الفلاح في التعاطي مع خياراته، وهذه إملاءات بساطة وعفوية في تقاليد إنتاجنا الزراعي التي تعتمد على التقليد وحسابات العائد على أساس موسم سابق، فتحصل الاختناقات الراضّة للفلاح وللتنمية الزراعية ومستقبل القطاع عموماً.

لن ندخل الآن في تناقضات التقاط المشكلة في وسائل الإعلام، وتباين تصريحات الفلاحين ذاتهم في ذات شأن البطاطا الذي هو موضوع الساعة..فهذه قصّة مريبة في الواقع، إلا أن المريب أكثرهو تدخل جهات أخرى للصيد في الماء العكر متناسية دورها، لتلوذ باتهام المؤسسة السورية للتجارة كـ”كبش فداء” وهذه عادة عريقة في أدبياتنا..نبحث دوماً عن أكباش للتضحية بها على مذبح الفشل، و”السورية للتجارة” هي كبش اليوم.

في أزمة البطاطا وسواها من محاصيلنا المتحالفة مع الكساد، مسؤوليات لابد من توزيعها بعدالة بين عدّة جهات، تبدو “السوريّة للتجارة” في آخر القائمة التي يمكن ترتيبها في هذا الشأن.

وسنبدأ باتحاد الفلاحين “الفلاح الثري” الذي عودنا على أن جل مايفعله في مثل هذه الأزمات هو الصراخ مع المزارع والتباكي المثير للدهشة …وياله من صراخ مدوّ..وهنا نسأل لماذا لايتدخل هذا الاتحاد بالفعل بأمواله وليس بصراخه، ونعلم أن لديه استثمارات وعائدات كبيرة، وثمة رفاهية لايمكن إخفاءها تظهر على كل ذي صلة بمفصل تنفيذي فيه، فلماذا لاينبري للدفع بأمواله في الاستثمار “الإنقاذي”؟؟

ونسأل هل من اختصاص اتحاد الفلاحين الاستثمار في السياحة مثلاً – لديه استثمارات سياحية – أم أن استثمار محطات الوقود أيضاً من اختصاصه، وهل وهل وهل….؟؟!!

لماذا لايتدخل ويساعد”السورية للتجارة” في استجرار المحاصيل، ويتحمل بعضاً من الخسائر التي تتحملها؟

لماذا لايستثمر في التصنيع الزراعي”معامل الشيبس للبطاطا و برادات التخزين أيضاً أو معامل عصائر الحمضيات أو مشاغل توضيب الإنتاج وإعداده جاهزاً للتصدير” ؟؟

الجهة الثانية المسؤولة وزارة الزراعة التي تنأى بنفسها عن تخطيط الإنتاج وتكتفي بالتشجيع وتقديم الدعم والمستلزمات، فهنا ثمة حلقة مكمّلة أغفلتها وهي دراسة الاحتياجات الاستهلاكية المحلية من كل محصول، والاحتياجات التصديرية عبر التواصل مع اتحاد المصدرين وغرف التجارة، ليكون ممكناً تقدير المساحات التي ستزرع ويجري توزيعها على مناطق الإنتاج “كوتا” وفق حصص مدروسة كي لاتحصل الاختناقات القاتلة، وهذا لم يحصل رغم توالي أزمات فورات الإنتاج.

الجهة الثالثة هي وزارة الصناعة التي باتت شبه حلقة مشلولة في الهيكل الحكومي، فهي التي يقع على عاتقها تشجيع التصنيع الزراعي، وليس صناعة السيارات وتجميع المعدّات الهندسية، ومثلها اتحاد غرف الصناعة الغارق في البحث عن “لقطات” امتيازية ومطارح للصيد الثمين..التصنيع الزراعي حل نأت الجهات المعنية بنفسها عنه، وصمتت حيث صراخ الملفوحين وتوجعهم!!؟؟

الجهة الرابعة هي وزارة الاقتصاد والتجارة بكل هيئاتها والجهات التابعة، إذا يجب أن تبحث لها عن دور تصديري فاعل، يتعدى إعداد الدراسات والخطط التصديرية التي أكثرت منها، وتخللتها كلمات مستفزة مثل ” يجب ولابد وضرورة ” وكأنها طرف غير معني بالتنفيذ يكتفي بإطلاق خبراته واستشاراته في الهواء، ومثلها اتحاد غرف التجارة الذي ارتكس تصديرياً على مرّ عقود وعقود!!

أما إذا كان ولابد من التدخل فلتتدخل وزارة المالية وتخصص مبالغ لاستجرار المحاصيل المأزومة والفلاحين المكتوين بنار الخسائر، حتى ولو اضطرت لإتلاف ماتستجر، حفاظاً على استدامة الزراعة ومصير الفلاح المرتبك.

كل هذه الجهات نسيت أدوراها، ونحن أيضاً أشحنا بوجهنا عن مسؤولياتها، وصب الجميع جام غضبهم على “السورية للتجارة” التي نرفض أن نفهم أنها عبارة عن تاجر في المحصلة..لكنها تاجر وجداني عطوف ممكن أن يقبل بحالة اللاربح، لكن من غير الممكن أن يتحمل خسائر فادحة، وتتحمل المؤسسة خسائر في كل موسم عندما تستجر المحاصيل على نفقتها، وفي هذا خدمة للمنتج وللمستهلك لأن تكاليف النقل ومستلزمات الشحن والتعبئة تدخل في عباءة هذه المؤسسة “الكبش” الذي نعده للذبح كلما دق الكوز بالجرّة؟؟!

ختاماً وفي موضوع البطاطا بالتحديد عندما تشتري “السورية للتجارة” الكيلو بـ 65 ليرة وتعفي الفلاح من تكاليف الشحن والعبوات والتوضيب فكأنها اشترت الكيلو غرام بسعر 100 ليرة ، إذا هي خاسرة في هذه العملية، ولانظن أنها قادرة على استجرار كامل الكميات من المنتجة لتغطي عيوب وفشل كل الجهات المسؤولة قبلها.

ليس من أجل البطاطا ولا الحمضيات، بل لأجل مجمل تنميتنا الزراعية، نعتقد أن المسألة تستوجب اجتماعاً حكومياً لكل الجهات ذات العلاقة لوضع النقاط على الحروف ووضع كل جهة أمام مسؤولياتها في رعاية القطاع الزراعي، ويجب ألا تتكرر أزمات الكساد أو قلة المعروض الإنتاجي، نحن بلد زراعي وفي ترك القطاع لعشوائيته فوات فرص وضياعات مؤسفة في الأموال والآمال.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات