فرضت الحرب الطاحنة على السوريين نمطاً من الحياة وصل حد التقشف ولمختلف شرائح المجتمع بما فيها الطبقة الميسورة, إذ لم تعد البالة حكراً على الفقراء، فقد بدا الاعتماد على الألبسة المستعملة (البالة) حاجة فرضتها الفاقة والعوز لأسباب عدة، في مقدمتها الظروف الاقتصادية وضعف القوة الشرائية لدى المجتمع، من هناوجدت ملابس البالة سوقاً مفتوحاً في معظم أسواق الحسكة وأصبحت مصدراً لجذب أنظار أعداد متزايدة من المواطنين ذوي الدخل المحدود والمرتفع على حد سواء، نظراً لرخص ثمنها، وجودة أنواعها ففي جولة في سوق البالة حيث يبدأ البيع أول يوم في الأسبوع، بأسعار مرتفعة نسبياً، لكنها ليست غالية كما يظن البعض، مثلاً بين 700 والألف ليرة للقطعة الكبيرة والجيدة، ثم تبدأ الأسعار بالتناقص يوماً إثر آخر، أسعار الأحد أقل من أسعار السبت، وأسعار الاثنين أقل من أسعار الأحد وهكذا، وفي يوم الخميس آخر أيام الأسبوع الأسعار في الصباح غير الأسعار في الظهيرة، الأسعار تتراجع كل ساعتين تقريباً، إلى أن نصل إلى آخر نقطة في نهاية هذا اليوم، حيث يقوم أغلب أصحاب البسطات في سوق البالة بفتح بسطاتهم (سبيلاً)، أي بتوزيع ما يتبقى على بسطاتهم من ألبسة أو أحذية أو غيرها مجاناً بلا أي مقابل، ويبرر رياض- وهو صاحب محل- ذلك أن البالة في الحسكة بصورة عامة رخيصة جداً، لأنها بلا جمارك، وعندما يصل  البائع إلى مرحلة تغطية التكلفة والربح المحدد، يلجأ في نهاية الأسبوع في آخر ربع ساعة إلى توزيع ما تبقى من البالة التي على بسطاته مجاناً أي يفتحها سبيلاً، لكي تتاح له الفرصة أن يفتح بالة جديدة في يوم السبت أول يوم من الأسبوع، وهذا له زبائنه وأسعاره، وهناك زبائن لا يحضرون إلى السوق إلا يوم السبت وفي وقت مبكر لكي يحصلوا على القطع ذات النوعـية الجيدة رغم ارتفاع السعـر نسبياً عن بقية أيام الأسبوع، أي يحضرون عـند لحظة فتح البالة وينتقون ما يحتاجون إليه بكل هدوء من النوعيات الجيدة قبل أن تـُفـقـَد من (راس الكوم أو وجه السحارة) كما يقال، وهناك زبائن لا يحضرون إلى السوق إلا في آخر يوم من الأسبوع أي يوم الخميس من أجل الفوز بأقـل سعـر.
 
رزق الله عـلى أيام التفـصيل
في جولة لنا في السوق المملوء بالبسطات التي تحمل أنواعاً مختلفة من الألبسة والمستلزمات، بسطات عليها ألبسة رجالية وأخرى ألبسة نسائية وثالثة ألبسة ولادية وهكذا، بعض البسطات عليها عباءات نسائية وأخرى عليها بيجامات وأخرى عليها بنطلونات وهكذا، حتى الأحذية هناك تخصصات،  بسطات عليها أحذية نسائية وبسطات عليها أحذية رجالية وأخرى عليها أحذية ولادية، وبعض البسطات عليها أحذية من كل الأنواع للرجال والنساء والأولاد، وكل شيء له ثمنه حسب نوعية القطعة وجودتها.
بعض الأصدقاء ظفروا بطقم رجالي رائع (جاكيت وبنطلون) من البالة بسعر ألف ليرة فقط، ثمنه في محلات الألبسة الجاهـزة يتراوح بين 20 و 25 ألف ليرة،  أما التفصيل فيقول عنه المهندس يعـرب الذي التقيناه في السوق إنه ودعه منذ زمن أي منذ أن ارتفعت الأسعار بهذا الشكل المرعب، ويضيف: كنا نفصل أفضل طقم بأربعة آلاف ليرة، ندفع منها ألف ليرة عند استلام الطقم ثم ندفع للخياط ألف ليرة كل أول شهر، أي نفصل طقماً بالتقسيط المريح، أما اليوم فأجرة تفصيل أي طقم لا تقل عن 30 ألف ليرة وتــُدفـَع نقداً.
من البسطات إلى المحلات
الأسعار في المحلات غير الأسعار على البسطات الموجودة في الشارع أمام المحلات مباشرة، وقد تكون البسطة التي أمام المحل هي لصاحب المحل أيضاً، لكن البضاعة على البسطة غير البضاعة في المحل وأيضاً السعر يختلف، ففي المحل البضاعة قد تكون أفضل نوعاً وحتماً أغلى سعراً.
في أحد المحلات استقبلنا البائع مرحباً بوجه بشوش، البضاعة كانت معروضة بشكل جيد معلقة على الأعمدة الحديدية كل قطعة وحدها، على البسطات الوضع مختلف كل القطع (مكومة) فوق بعضها وعلى الزبائن تقليبها بأنفسهم وقد يجدون ما يريدون أو لا يجدون، المهم من خلال جولتنا في المحل  اكتشفنا أن صاحبه يتفنن بعرض البضاعة فيه، ولاسيما القطع الجيدة لها سعر خاص، وفعلاً ثمة قطع في البالة عموماً من النوع الممتاز.
هذا مايؤكده المعلم أبو فيصل صاحب المحل قائلاً: إن الأسعار في المحلات تختلف عن الأسعار في البسطات لعدة أسباب، أولها البضاعة مختلفة، فصاحب المحل يفرز البضاعة وينتقي أفضلها ليعرضها في المحل بأسعار خاصة، ثم يـُـلـقي البقية فوق البسطة في الشارع أمام المحل بالأسعار الرائجة، أي إن القطعة الموجودة في المحل لن يجد الزبون مثيلاً لها على البسطة وكل شيء بثمنه، الفرز، العرض، كلها مراحل من العمل لها ثمن، وثانيها هناك تكاليف للمحل منها أجرة المحل والرسوم والضرائب (بلدية ومالية) وقيمة الكهرباء وأجرة العمال وهكذا، هذا كله له ثمن ويجب أن يؤخذ بالحسبان بأسعار البضاعة المعروضة للبيع.
وأضاف: إن زبون المحل عنده استعداد لدفع سعـر أعلى للقـطعة، لكنه يعـرف أنه يشتري قـطعة نظيفة ثمنها فيها، لكن في كل الأحوال سواء في المحلات أو على البسطات تبقى أسعار البالة في محافظة الحسكة رخيصة.
محل بحجم سوق
بسطات «البالة» ومحلاتها في الحسكة لها سوق خاص يمتد من ساحة الرئيس وسط المدينة ويتجه شرقاً على امتداد الشارع، كما يمتد إلى الشوارع المحيطة بهذا الشارع والتي تتفرع عنه، فإنها أخذت تنتشر في جميع الشوارع والأحياء وحتى الحارات بشكل واضح وسريع.
غير أن بعض المحلات تم توسيعها لتصبح أكبر من غيرها تعرض أنواعاً  متعددة من الألبسة المستعملة، حيث تجد في المحل الواحد قسماً للألبسة الرجالية وآخر للنسائية وآخر للولادية وآخر لستر الجلد وقسماً للبيجامات وقسماً للأحذية وهكذا، والأسعار تكاد تكون واحدة في جميع المحلات، وعلى العموم هي أسعار معقولة ومناسبة للفقراء وذوي الدخل المحدود والمهدود أيضاً، فالكل قد يجد ما يريد وما يحتاج إليه في سوق البالة في الحسكة، إلا هذا المحل، الذي أنشئ على مساحة كبيرة في شارع الجامع الكبير، إنه أشبه بمول كبير يمتد أفقياً لا عمودياً على طابق واحد، عـُـلـِّـقـَت عليه لوحة كبيرة تتضمن اسم المحل واسم صاحبه (محل كذا للألبسة المستعملة ــ ألبسة أوروبية  مستعملة)، وكان لابد من أن ندخل هذا المول الأرضي أو المحل الكبير، فوجدنا فيه الألبسة والأحذية المستعملة بجميع أنواعها وقياساتها، حتى الحقائب النسائية (المستعملة طبعاً) لها جناح خاص بها وكذلك الحال بالنسبة للبضائع الأخرى، حيث إن الزبون يجد كل ما يريده من ألبسة وأحذية وبضائع أخرى وإكسسوارات ولجميع أفراد العائلة في هذا المحل الكبير أو المول الأرضي.
صاحب المحل أبو فاروق قال لنا: إنها فكرة خطرت في باله فنفذها، وهي: لماذا لا نقيم محلاً كبيراً أشبه بسوق للبالة؟ وأضاف: كان هذا المكان عبارة عن بيت عربي كبير.
وبيّن أن أسعار البالة في الحسكة صارت معروفة، بمجرد أن نرفع السعر قليلاً  فإن زبائننا سيتركوننا ويتوجهون إلى المحلات الأخرى، وهذا خسارة لنا، التاجر الشاطر هو الذي يعرف كيف يكسب زبائن  لا يخسرهم، في دمشق وحلب يقولون هذا التاجر بياع أي أنه يعرف كيف يكسب الزبون ويرغـّبه بالشراء فيشتري منه ويدفع وهو مبتسم وراضٍ.
إلى الأسواق الشعـبية
توجهنا إلى الأسواق الشعـبية التي تظهر كل يوم في حي وتسمى باسم ذلك اليوم، سوق السبت في حي، وسوق الأحد في حي آخر، وهكذا حتى سوق الخميس، في هذه الأسواق يتنقل الباعة من مكان إلى آخر، يعـرضون بضاعتهم من الأنواع الشعـبية وبأسعار شعـبية، في هذه الأسواق أخذت  تظهر البالة بجميع أنواعها ويـُقـبـل عـليها الناس بكثرة.
في أحد الأسواق قالت لنا سيدة ستينية وهي تقلب الألبسة المستعملة المعروضة أمامها على إحدى البسطات: لولا البالة كان وضعنا حرجاً، من يستطيع في هذا الزمن الصعب أن يشتري ثياباً جـديدة؟ وأضافت زميلتها أن أيام زمان أيام الخير قبل الأزمة والمؤامرة علينا، لم نكن نشتري الألبسة المستعملة أبداً ولم نكن نفكر بها حتى مجرد تفكير، كل ثيابنا كانت جديدة، وكنا في بعـض الأحيان نلجأ للتفصيل الأغلى ثمناً من الجاهز، لكن اليوم في ظل هذه الظروف الصعبة اضطررنا تحت وطأة شظف العيش للتخلي عن كل هذه الأمور، وأصبحت البالة ملاذنا الوحيد.
رجل في الخمسين من العمر قدم لنا نفسه في السوق على أنه أبو موريس قال لنا: في إحدى المرات أردت شراء بضعة قمصان جديدة لي لأن قمصاني أصبحت قديمة وألوانها بـَهـُـتـَت بعض الشيء، زرت معظم المحلات فلم أجد ما يناسبني، إذا وجدت اللون المناسب فإنني لا أجد القياس المناسب وهكذا، الأمر الذي أوقعـني في حيرة من أمري، وبناء على نصيحة أحد الأصدقاء توجهت إلى سوق البالة فحظيت  بعشرة قمصان بألف ليرة أي القميص بمئة ليرة فقط، وكلها من النوع الجيد، علماً أن  أحد الباعة في هذا السوق الشعبي قال لنا إنهم يحصلون على بضاعتهم من تجار البالة الكبار في المحافظة، وهم، أي التجار، يؤمِّنون البضاعة إما من شمال العـراق وإما من تركيا ومن دون جمارك، ولهذا أسعار البالة في الحسكة رخيصة، بائع آخر أخبرنا أنه ليس صاحب البضاعة إنما هو مجرد بائع عـنـد صاحب محل للبالة في سوق البالة وسط المدينة، وصاحب هذا المحل لديه عـدة بسطات عـليها عمال ومنها هذه البسطة، وهناك العـديد من الباعة على هذه الشاكلة في السوق.
الإلزام بالإعلان عن السعـر فقط..!
في جولة على الجهات المعنية في المحافظة ذات العلاقة بموضوع الألبسة المستعملة، عرفنا أن هذه الجهات تمارس سياسة النأي بالنفس عن هذا الموضوع، ولا تتدخل به إلا بشكل محدود، وذلك لأن الألبسة المستعملة تدخل المحافظة تهريباً عبر منافذ حدودية غير شرعية وخاصة من شمال العراق.
قال مدير الاقتصاد والتجارة الخارجية محمد الحسين أن مهمة المديرية منوطة بالبضاعة التي تدخل البلاد بشكل شرعي وقانوني عبر المنافذ الحدودية النظامية، أي البضاعة التي يتم استيرادها وفق الأنظمة والقوانين المرعية، وحالياً لا يوجد في سورية إلا منفذان فقط لاستيراد المواد والسلع هما اللاذقية وطرطوس، والألبسة المستعملة الموجودة في محافظة الحسكة تدخل من شمال العراق عبر منافذ غير شرعية أي أنها بضاعة مهربة.
وبين مدير التجارة الداخلية وحماية المستهلك المهندس اغناطيوس كسبو أن دور المديرية ينحصر في إلزام باعة الألبسة المستعملة بالإعلان عن السعر فقط، ومن فترة وجيزة تم تنفيذ حملة على محلات وبسطات  الألبسة المستعملة وتم توجيه إنذارات لهم بضرورة الإعلان عن السعر، وبعد أيام تم تنفيذ حملة أخرى للتأكد من التزام الباعة بهذه التعليمات، وقامت الدوريات التموينية بتنظيم عدة ضبوط بحق عدد من الباعة بمخالفة عدم الإعلان عن السعر.
عدم إشغال الأرصفة
رئيس مجلس مدينة الحسكة المحامي بسام العفين قال: لا علاقة لمجلس مدينة الحسكة وكل مجالس المدن والبلدات والبلديات بهذا الموضوع، فهي لا تتدخل بكيفية وصول الألبسة المستعملة إلى أسواق المحافظة لكونه من اختصاص مؤسسات أخرى، ونظن أنها لا تستطيع ممارسة هذا الدور في ظل الظروف الأمنية السائدة في المحافظة، وكل ما نقوم به، كمجلس مدينة، هو إلزام الباعة بعدم إشغال الأرصفة، وقد نظمت دورياتنا عدة مخالفات بحق عدد من الباعة غير الملتزمين بهذه التعليمات، كما أننا نستوفي من أصحاب المحلات الرسوم المنصوص عـليها في الأنظمة والقوانين النافذة لمجالس المدن والبلدات والبلديات، وهذا ما تفعله مديرية المالية أيضاً.
القـطعة بمئة
في نهاية هذه الجولة على أسواق الألبسة المستعملة في الحسكة، اكتشفنا أننا اشترينا من دون أن نشعـر العـديد من القطع من كنزات وبنطلونات وستر (جاكيتات) شتوية وربيعـية متنوعة، كيف لا نفعل ونحن نجد أمامنا قـطعة مناسبة بسعر بخس مئة ليرة فقط، البنطلون بمئة والكنزة بمئة والسترة بمئة، أي أننا اكتسينا والحمد لله بثلاثمئة ليرة فقط، كما اشترينا عدة أحذية بسعر يعادل نصف سعر حذاء واحد جديد من النوع المتوسط لا الجيد، والفضل لسوق الألبسة المستعملة أي «سوق البالة» مول الفقراء والدراويش عن جدارة واستحقاق.
اللهم أدمها نعمة واحفظها من الزوال.

تشرين

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات