الفسادُ بقرارٍ أخطرُ من الفساد بصفقة، لأن “الطراز” الأوّل محصَّنٌ بهيبة متَّخذ القرار ومعزَّزٌ بنفحةٍ تشاركيّة تنتجها عادةً المأسسة المفترضة لصناعة القرار، التي تتجلى على شكل إما لجان طارئة أو مفاصل تنفيذية تقليدية هي ما نصفها بـ “مطبخ” القرار التنفيذي.

أما الطرازُ الثاني -الصفقة- فهو محدود الآثار بحدود الصفقة ذاتها، وعندما يُعرَّى ويفتضح يكون ارتكاباً موصوفاً يستوجب المحاسبة، بينما يستتر النوع الأوّل تحت مزاعم الخطأ وقلة الخبرة عندما تقتضي الحاجة ذلك.. لذا غالباً ما نُسدي نحن الإعلاميين خدمة ليست بخسة القيمة لمن اقترح ودرس ومن قرَّر عندما نشير إلى خطأ قرار في مستوى ما من مستويات تراتبية مؤسساتنا، ونبتعد بظنوننا عن احتمالات الفساد، ويتنفَّس المعنيّون الصعداء، رغم مظاهر الامتعاض والاعتراض التي يبدونها على شكل ردود ورقية أو معاتبات تبقى في حدود المكالمات الهاتفية.

في “تراثنا” التنفيذيّ فسادٌ تقليديّ -واعذرونا للاستنتاج- وما زال دارجاً منذ سنين، يحتضن وثائقه وحيثياته ملفُّ تصدير الأغنام، حيث الكعكة العامرة بالدسم، أكثر بكثير من الدسم المعهود في لبن هذا الصنف السخيّ من ثروتنا الحيوانية.

فقد اعتدنا في مثل هذه الأيام من كل عام أن نتابع بصمت،فصول التنازع على المكاسب بين “طبّاخي” قرار التصدير، بمن فيهم أولئك الذين يدفعون بـ”المنكهات” من خارج المطبخ ليكون ما يكون على شكل قرار يفتح باب تصدير 500 ألف رأس من ذكور العواس والماعز الجبلي.

أليس غريباً ألا تبقى جهة ذات صلة ولو من بعيد بهذا الملف إلا وتسجِّل اعتراضها على فكرة التصدير وتوقيتها؟ والجميع يتذرَّع بحقوق المستهلك ومصالحه، ثم تكون المفاجأة بأن أصوات المعترضين تخفت ثم تتلاشى، ويسود الصمت قليلاً، ثم يُعلن القرار بالتوافق.. وكأن يداً خفية “وسخيّة” تكفَّلت بثمن هذا التوافق .. والله أعلم؟!.

أغرب ما يمكن ملاحظته -وهذا لمحبّي الضحك من شرّ البلية- هو أن تجاراً يتعمَّدون رفع أصواتهم معترضين على تصدير الأغنام، معلنين أن ذلك يمس مصالح المستهلك، وهم ذاتهم يكونون قد سلبوا نعمة هذا المستهلك و”سلخوا جلده” بالسلع التي يتاجرون بها.. لكن اعتراضهم لا يطول غالباً، لأن السكوت من ذهب وثمنه ذهب أيضاً… وهذه لعبة باتت على المكشوف وقد حفظناها عن ظهر قلب!!.

الآن نسأل بكل ما في التساؤل من استفهام وشكّ وريبة، ومَن يرى في تساؤلنا اتهاماً فلا بأس، والسؤال هو لماذا لا تتولّى الحكومة ذاتها تصدير الأغنام؟ لماذا تترك هذا الامتياز لبضعة تجار أدمنوا التُّخمة على حساب مربٍّ حفي وهو يركض خلف قطعانه وأمامها بحثاً عن المراعي؟ وعلى حساب فواتير حكومية باهظة تُدفع لتنمية القطيع ورعايته تلقيحاً وتحصيناً من الجائحات؟؟ ثم على حساب مستهلك بات ثمة موقف يشبه الثأر بينه وبين اللحم الأحمر؟؟.

أليست العواس ثروة؟ فلمَ تركتها حكوماتنا وتخلت عنها لمصلحة مَن قدّموا أنفسهم مصدِّرين وفشلوا في تصدير ما يحتاج فعلاً إلى شطارة لتصديره، ولعل السلع الكاسدة في مستودعات البلاد خير شاهد إدانة لهؤلاء؟!.

أغنامنا ميزة مطلقة، أي يكفي حكومتنا أن تعلن -فقط تعلن- عن رغبتها بالتصدير حتى يتزاحم المستوردون من كل حدبٍ وصوب وبشروطنا لا بشروطهم… فلماذا لا تسحب الحكومة هذا الملفَّ من أيدي المتهافتين على مطارح الدسم كما الذباب؟؟.

إن كان النفط والقمح ثروتين محصورتي التداول التجاري بيد الحكومة.. ألا تبدو العواس أيضاً ثروة تستحقّ الآلية ذاتها في الاستثمار والتصدير؟.

من يدري ربما لن تتأخر مطالبات من باتوا أصحاب أفضليّة في ثروات البلاد، بأن تفرج الحكومة لهم عن حقّ اقتحام حصون الحصرية المزمنة.. ففي صادرات النفط ما يُغري، وفي القمح أيضاً!.

 
الخبير السوري– ناظم عيد

سيريا ديلي نيوز


التعليقات