لأننا نعتقد بأن حوار السوريين بهدف التوافق على إنهاء الأزمة السورية، ووضع ملامح المستقبل السوري المتجدد، لا يقتصر على الجانب السياسي، على أهميته، بل يتعداه إلى الجانب الاقتصادي والاجتماعي، الدستور السورينعيد نشر المقالة لتي نشرتها (النور) عن سمة الاقتصاد في الدستور الساري حالياً.

قال السوريون كلمتهم، وصوتوا بالموافقة على الدستور الجديد للبلاد، وأصبحت نصوصه الموزعة

بين صلاحيات السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، وحقوق المواطن الأساسية، وخاصة حقوقه السياسية والاجتماعية، أصبحت هذه النصوص ملزمة للمشرعين كي يستندوا إليها في وضع القوانين خلال الفترة القادمة، كما هي ملزمة للمواطنين ومكونات المجتمع المدني كي يمارسوا نشاطهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي في ظلها.

لن ندخل في تفاصيل مواد الدستور، وخاصة تلك التي أثارت سجالات تراوحت بين ضرورة تعديل المواد الإشكالية، ورفض الدستور برمته، فهذه السجالات، إضافة إلى مضمونها الإيجابي بشكل عام
عبّرت عن آراء المواطنين الذين يطمحون إلى تجديد النصوص الدستورية كي تستوعب طموحهم إلى مستقبل ديمقراطي حقيقي، تنتفي فيه الفوارق بين المواطنين على أساس الجنس واللون والعرق والدين، وتؤسس قاعدة جديدة لعقد مواطنة ديمقراطي جديد.

لكننا ومن خلال استرجاع تجاربنا- وتجارب غيرنا أيضاً - ندرك أن أرقى النصوص الدستورية قد تتحول إلى (خربشات) سوداء.. على صفحات صفراء، إذا ما جرى تجاهل إلزاميتها للحاكم والمحكوم .

توزع النهج الاقتصادي للبلاد على حزمة من مواد الدستور الجديد، لكن أبرز هذه المواد كانت المواد التالية:

المادة الثالثة عشرة

1- (يقوم الاقتصاد الوطني على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني وتطوير الإنتاج ورفع مستوى معيشة الفرد وتوفير فرص العمل).

وكنا نفضّل أن يتطرق النص صراحة إلى:

(تنمية اقتصادية واجتماعية وفق خطط الحكومة الخمسية، التي تهدف إلى تطوير القطاعات المنتجة في القطاعين العام والخاص، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتخفيض نسب الفقر والبطالة، وإنماء المناطق المتخلفة).

2- (تهدف السياسة الاقتصادية للدولة إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد،عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة).

هنا جاء النص ضبابياً! فهل تسعى السياسة الاقتصادية للدولة إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عن طريق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية؟! النمو الاقتصادي لايلبي هذه الحاجات لا للدولة ولا للمواطن، إذ كثيراً ما تستأثر الطبقة الرأسمالية والفئات الطفيلية بعوائد النمو، خاصة في الدول النامية التي تعيد هيكلة اقتصاداتها وفق اقتصاد السوق
وتطلق العنان لقوى السوق الحرة من جميع القيود، فتحقيق نسب نمو مرتفعة هنا لا يعني أن ثمار هذا النمو ستوزع بين طرفي عملية الإنتاج الرأسمال وقوى العمل وفق مبدأ العدالة الاجتماعية. النمو الاقتصادي لايحقق العدالة الاجتماعية! وهذا ما لمسناه لمس اليد خلال العقد الماضي، إذ تباهى مدبّرو الاقتصاد السوري في الحكومات السابقة بنسب النمو المحققة
والتي بلغ متوسطها نحو5%، لكن هذا النمو ذهب إلى جيوب الرأسمالية الريعية.. والطفيلية، والفئات الثرية (البازغة)، في حين ازدادت معاناة الفئات الفقيرة والمتوسطة،وخاصة قوى العمل، وارتفعت نسب الفقر والبطالة، لذلك كان من  الأفضل حذف هذه الفقرة من الدستور.

المادة الرابعة عشرة

(الثروات الطبيعية والمنشات والمؤسسات والمرافق العامة هي ملكية عامة تتولى الدولة استثمارها والإشراف على إدارتها لصالح مجموع الشعب وواجب المواطنين حمايتها).

ملكية الدولة للمرافق العامة والقطاع العام الاقتصادي تعدّ شكلاً من أشكال سيادة الشعب على موارده وقطاعاته المنتجة، ويتضخم..أو يتقلص حجم هذه الملكية تبعاً للنهج الاقتصادي المعتمد من قبل الدولة، فقد حاول البعض في الماضي - وما زالوا يحاولون - الخلاص من القوانين والتشريعات التي تقف عائقاً أمام تسيد اقتصاد السوق، وعلى رأسها القوانين المتعلقة بسيادة وإدارة الدولة للمرافق الاستراتيجية كالمرافئ.. والنفط.. والكهرباء. لقد تشكلت القناعة لدى كثيرين بأن المطلوب هو إقصاء الدولة عن ملكية وإدارة مؤسساتها الاقتصادية ومنشآتها ومرافقها العامة، لصالح القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب، فالمنشآت موجودة، والقوة العاملة مؤمّنة بأجور تباهى مسؤولونا الاقتصاديون السابقون بتواضعها، وما على المستثمر إلاّ القيام ببعض التجديدات، والمجيء بشركة أجنبية لإدارة المشروع! لذلك نعتقد أن النص الوارد في الدستور جاء مؤكداً لإدارة الدولة لهذه الملكيات العامة، ولا يجوز بعد ذلك لأسباب (دستورية) العزف على نغمة (البيع.. التأجير.. الاستثمار.. الإيجار.. التشارك).

المادة الثامنة عشرة

(يقوم النظام الضريبي على أسس عادلة وتكون الضرائب تصاعدية بما يحقق مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية).

تعد الضريبة، إضافة إلى كونها مصدراً من مصادر الإيرادات العامة، أداة بيد الدولة لإعادة توزيع الدخل الوطني بين فئات المجتمع، إذ تجبى من الذين يملكون، كذلك ممن يجنون الأرباح والريوع، لتنفق على مشاريع تنموية تقدم الخدمات، والتقديمات المالية والعينية لمن لايملكون.

والإشارة في النص الدستوري إلى (تصاعدية) الضريبة تأكيد لعدالتها بين الفئات الاجتماعية المختلفة، لكن الأفضل- حسب اعتقادنا- أن يقال: تكون الضرائب على الأرباح والريوع تصاعدية.

المادة الأربعون

(لكل عامل أجر عادل حسب نوعية العمل ومردوده على ألاّ يقل عن الحد الأدنى للأجور الذي يضمن متطلبات الحياة المعيشية وتغيرها).

النص هنا إشكالي.. فما هو (الحد الأدنى) الذي يضمن متطلبات الحياة المعيشية وتغيرها؟ الأجور الحالية في حدها الأعلى لا تَمنح هذه الضمانة! فكيف بالحد الأدنى؟ وكان من الأفضل حسب اعتقادنا لو استعضنا عن هذه الفقرة بالفقرة التالية: تزداد الأجور شهرياً بنسبة تساوي ارتفاع أسعار سلة متنوعة من السلع والخدمات، حسب اقتراحات الجهات الحكومية المختصة.

عادة تتسم النصوص الدستورية بالوضوح، ورغم ذلك تُشكّل اللجان القانونية في جميع الدول لشرح بعض النصوص التي تحتمل التفسيرات والتأويلات، لكن إيراد نص دستوري ملتبس في طبيعة النهج الاقتصادي للبلاد يؤدي إلى ضياع الحكمة الرئيسية: إلزامية السياسات الاقتصادية الهادفة إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فالتفسير اللاحق قد يأخذ النهج الاقتصادي للبلاد بعيداً عن إرادة واضعيه.

في الدستور القديم كان النص واضحاً: (اقتصاد اشتراكي مخطط)، لكن إرادة بعض مهندسي الاقتصاد السوري، ورؤيتهم المنسجمة مع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، ضربت عرض الحائط بإلزامية النص، وأخذت الاقتصاد السوري إلى غياهب السوق الحر! فما بالكم اليوم مع نص عائم؟

لانعتقد أن غياب (السمة الاشتراكية) لاقتصادنا الوطني عن النص الدستوري الجديد سيقلل من تعلق الفئات الفقيرة في سورية، وخاصة الطبقة العاملة وجماهير العمال الزراعيين والفلاحين الصغار وجميع الكادحين بالخيار الاشتراكي، فحلم هؤلاء لا يتوقف على ورود نص أو فقدانه، إذ تبقى الاشتراكية والعدالة هدفاً لجميع المحرومين الذين يعانون الفقر.. والتهميش السياسي والاجتماعي.


عضو جمعية العلوم الاقتصادية

بشار المنيّر
النور

 

 

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات