سنوات وسنوات تمر وتنقضي من عمر المواطن السوري، وهو حائر بين القضايا الصغيرة، والقضايا الكبيرة التي حملها مع أول شهيق يأخذه، وتغلغلت في خلاياه وشرايينه، وسرت مع قطرات دمه دون أن يتمكن من أن يخرجها ولو من أصغر خلية أو حتى يمررها مع أول قطرة دم نازفة.

نعم، أيها السادة، فالمواطن الذي تربى وترعرع في ظل قضاياه الوطنية الكبيرة كالقضية المركزية فلسطين، وعلى ضرورة حماية المقاومة وأهميتها في تحرير الأراضي المحتلة، وعلى الإيمان بالوحدة العربية والحرية والاشتراكية، وعلى أهمية التلاحم والتفاعل والمد العروبي من المحيط إلى الخليج، وعلى التوزيع العادل للثروات وعلى أن اليد المنتجة هي اليد العليا، وعلى أن القانون هو السائد وهو المسيطر، وأن من يخرق القانون ستُفرَض بحقّه أشد أنواع العقوبات، وأن المواطنين متساوون أمام القانون كأسنان المشط، وعلى أن الانسان محترم ولا يمكن لأيّ سلطة إذلاله وإهانته، وعلى حرية الجماعة التي تسقط أمامها حريتنا كأفراد .

نعم، أخي المواطن، كل هذه القضايا الكبيرة لا يحق لك أن تنساها أو أن لا تفكر بها، ومن المعيب أن تهملها وأن تتناول كأس شاي أو متّة أو حتى فنجان قهوة دون ان تكون حاضرة مع كل رشفة شاي أو شرقة متّة أو رشفة قهوة، ووصل الأمر إلى ضرورة أن تتنفسها مع كل سحبة نفَس أركيلة، وأن تراها تتصاعد وتكبر مع الدخان المنبعث، وعليك أن تتحسّسها وأنت في سريرك وأن تتحمل البرد شريطة أن تبقيها دافئة لدرجة أنه من العيب أن تتركها تبرد حتى ولو كلّفك الأمر أن تمشي عارياً... نعم عارياً!!

نعم أخي المواطن، فأنت مؤتمن على ان تحمّلها إلى الأجيال القادمة، ومن غير المقبول أن تنام يومياً قبل أن تتأكد من أن أولادك قد حفظوها عن ظهر قلب، وأنهم مستعدون لتقديم كل ما يملكون في سبيل الدفاع عنها وحمايتها وانتقالها بشكل آمن من جيل إلى جيل. ولا غرابة في أن تأخذ عليهم العهود والمواثيق بضرورة ذلك، فهذه القضايا الكبيرة هي ما تشغل بال الحكومة والمعنيين بالأمر، ولولا هذه القضايا الكبيرة لكانت كل القضايا الصغيرة قد حُلّت...

ولكن ما هذه القضايا الصغيرة التي تشغل بالك أيها المواطن المزعج؟!

في الحقيقة، ولأني مواطن، فإنني أعتقد- بل أجزم - أن ما يشغل بالي هو تماماً ما يشغل بال كل مواطن بعيداً عن القضايا الكبيرة التي ذكرتها سابقاً... نعم قضايا صغيرة لا تشكل عشر معشار من وزن القضايا الكبيرة وثِقلها وأهميتها.

 هنا تقف الحكومة عند مفترق طرق وتتعجّب من ضآلة تفكير هذا المواطن، ومن انحطاط اهتمامه لدرجة أن هذه الحكومة والحكومات المنصرمة كانت تنتابها حالة من الضحك الهستيري عندما يصلها صوت المواطنين المطالبين بقضايا صغيرة كتلك التي سأذكرها، والتي أعتقد أننا نشربها مع ما بقي من كأس الشاي أو علبة المتة أو ظرف القهوة أو نفس الأركيلة!!

ما يشغل بال المواطن يا سادة هو الغلاء الفاحش والأسعار التي تنهش أحلامنا ولقمة عيشنا، في ظل غياب كامل للرقابة، سواء أكانت رقابة القانون أو رقابة الضمير!!

ما يشغل بال المواطن، يا سادة، هو انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، ومعايشتنا نحن وأبناؤنا الطلبة للظلمة، وعشقنا للّدات وللبطارية والشاحن، فهل عجزتم عن إيجاد حل لهذه المشكلة التي تتذرّعون بالأزمة سبباً لها، فيما تختفي الأزمة عند زيارتكم لأي محافظة، إذ ينعم أبناؤها بمتعة الكهرباء والدراسة ومتابعة أخبار السياسة وأخبار المنتخب وأخبار عارضات الأزياء أيضاً!

ما يشغل بال المواطن، يا سادة، هو الخدمة الهاتفية الرديئة وخدمة الإنترنيت بالرغم من ارتفاع أسعار المكالمات وخدمة الإنترنيت بشكل جنوني، وانقطاعها بسبب انقطاع الكهرباء، علماً أننا نقضي ساعات لتحميل مقطع صغير لا يتجاوز عشر ثوانٍ!

ما يشغل بال المواطن يا سادة هو رداءة الرغيف، بالرغم من كل الإجراءات التي اتخذتموها، وكل القرارات الخاطئة والصحيحة بهذا الشأن، فإلى متى سيبقى رغيفنا لا يليق بالاستهلاك البشري؟!

ما يشغل بال المواطن يا سادة هو الحصول على مازوت التدفئة، بعد أن باتت جبالنا جرداء بسبب تفشي ظاهرة تجارة الحطب لتقضي على كل أخضر في جبالنا الخضراء الجميلة!!

ما يشغل بال المواطن يا سادة هو رداءة الطرق والساحات والمفارق، بالرغم من زيادة الضريبة على السيارات وزيادة الرسوم، فهل زادت الرواتب وباتت تتحمّل زيادات كهذه؟!

ما يشغل بال المواطن يا سادة هو تردي الواقع التعليمي في مدارسنا وفي جامعاتنا، حيث الرشا والفساد وحيث التعليم الخاص وفضائحه في كل المراحل التعليمية، فكيف لطالب لم يحصل على مجموع يؤهله لدخول معهد صحي أن يدرس في كلية الطب البشري؟ وأي طبيب هذا الذي سيستقبل مرضاه ويوصّف ويشخّص حالاتهم المرضية؟!

ما يشغل بال المواطن يا سادة هو مسخ حريات حي بأكمله أو شارع بأكمله وانتهاكها، من أجل حرية أحدهم وزعرنته، لأنه ينتمي إلى هذا الفصيل او ذاك، أو لأنه محسوب على هذا الشخص أو ذاك!!

ما يشغل بال المواطن يا سادة هو المزاجية في القضاء، والفساد الكبير في أروقة قصور العدل، حيث تجري أحياناً تبرئة مجرم وإدانة متهم، شريطة امتلاك المال الكافي للإدانة او الاتهام، أضف إلى ذلك تعفن قضايا أكل عليها الزمن وشرب وهي تنتظر دورها في المناقشة والبت فيها!!

ما يشغل بال المواطن يا سادة حصوله على مقعد في وسيلة نقل مناسبة، من بيته إلى عمله والعودة، دون إذلاله وتعرّضه للعديد من اللكمات وعمليات الدفش والطحش، فإلى متى سنبقى رهينة مزاجية بعض السائقين بذريعة المزاجية في توزيع المازوت؟!

ما يشغل بال المواطن يا سادة هو حصول أرتال الخريجين الجامعيين بمختلف فروعهم على وظيفة يتمكنون من خلالها حفظ ماء وجوههم وتنسيهم تعب الدراسة والجوع والبرد!!

ما يشغل بال المواطن يا سادة هو عدم إحساسكم به وبصراخه وبجوعه وبعوزه وبحالات الضيق التي تعترضه، وبكذبكم عليه في كل زياراتكم ووعودكم بحجة انشغالكم بالقضايا الكبيرة، فهل ستلهيكم القضايا الكبيرة المزعومة التي قد يمتد البحث عن حلول لها إلى عقود وعقود، عن القضايا الصغيرة التي من واجبكم إيجاد الحلول الفورية لها؟! ومتى سيكون المواطن وقضاياه الصغيرة هو الهدف وهو البوصلة لعمل وزاراتكم يا ترى؟!

سيريا ديلي نيوز


التعليقات