الساحة الإعلامية والبحثية تضج بالكثير من التقديرات والسيناريوهات الأجنبية والمحلية حول إعادة الإعمار في سورية وتكاليفها وطرق تمويلها، التي تشترك بغياب الدقة، لعدم إمكانية حصر كامل الأضرار والخسائر، التي غالباً ما تستخدم قيمها الدفترية أو التقديرية في حساب ما تيسر منها، إضافة إلى اختلاف وتباين أسعار المواد التي تدخل في عمليات الإعمار في السوق العالمية.. وعوامل أخرى لسنا في صدد بحثها هنا، إلا أن الأهم من ذلك وضع سيناريو تقريبي لمدى إمكانية توفير التمويل اللازم للإعمار من المصادر السورية الداخلية والخارجية، فيبقى تقدير الفجوة بين المتوافر والمطلوب بعد إجراء مسوح ميدانية لتقدير حجم الضرر وما المطلوب للإعمار.
في هذا المجال  نشر مركز دمشق للأبحاث والدراسات «مداد»ورقة سياسات بعنوان «تمويل إعادة الإعمار.. الاحتياجات والمصادر المحتملة» قدّرت إمكانية جمع مبلغ يتراوح بين 74 و113 مليار دولار أميركي تقريباً وهو ما يغطي بين 38 بالمئة و58 بالمئة من تكلفة إعادة الإعمار، وحسب التقديرات الحكومية البالغة 195 مليار دولار أميركي، على حين تنخفض هذه النسبة لتصبح بين 30 و45 بالمئة من تكلفة إعادة الإعمار، إذا ما اعتمد على التقديرات غير الحكومية التي تصل إلى 250 مليار دولار أميركي وسطياً. مع الإشارة إلى أن هذا الرقم يمكن أن يزداد بشكل مطّرد، بفعل الإمكانات الكامنة للاقتصاد السوري والمتمثلة بالاكتشافات النفطية والغازية في الساحل السوري والتطور المتوقع للقطاع الصناعي بشكل خاص. إضافة إلى التمويل الخارجي المتوقع الحصول عليه من الدول والمنظمات المانحة في حال التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية متوافق عليه دولياً.
وتشتمل الموارد الداخلية السورية التي يمكنها المساهمة في تمويل الإعمار على الإيرادات العامة للدولة التي يكون جزءٌ منها مخصصاً للإنفاق الاستثماري. وبفرض استعادة الاقتصاد الوطني لقدراته ما قبل الأزمة، إذ بلغت نسبة إجمالي الإيرادات العامة إلى الناتج المحلي الإجمالي 22,7 بالمئة في العام 2010، فإن هذا المصدر من التمويل يمكن أن يسهم بمبلغ يتراوح بين 8 مليارات دولار أميركي (إجمالي الإنفاق الاستثماري) إلى 13 مليار دولار أميركي (إجمالي الإيرادات العامة).
ويمكن للحكومة السورية  حسب الوطن أن تلجأ إلى الاقتراض الداخلي، من خلال طرح أذونات وسندات للخزينة للاكتتاب العام، من المقيمين وبالعملة المحلية، تشارك بها المصارف السورية لمصلحتها ولمصلحة الأفراد والشركات، وبالمجمل يتراوح إسهام هذا المصدر في حال اعتماد سيناريو ما قبل الأزمة بين 25 و30 مليار دولار أميركي.
وبامكان الحكومة السورية أن تلجأ إلى الاقتراض الخارجي من خلال طرح سندات للخزينة للاكتتاب العام في الأسواق العالمية وبالعملة الأجنبية. ورغم أنه يمكن للحكومة السورية جمع كمية أكبر من الأموال، من خلال الأسواق المالية العالمية، مقارنةً بالسوق المالية المحلية، إلا أن نجاح هذا الأمر يتوقف على مدى قناعة المقرضين الخارجيين أو المستثمرين بالقدرات الكامنة للاقتصاد السوري من جهة، ومن جهة أخرى بقدرة الدولة السورية على الوفاء بالتزاماتها المالية الذي سينعكس من خلال عائد أعلى يطلبه هؤلاء المقرضون والمستثمرون كتعويض عن حجم المخاطر المرتفعة التي سيتعرضون لها، نتيجة الاستثمار في أوراق مالية حكومية صادرة عن الدولة السورية، بدلاً من الاستثمار في أوراق مالية صادرة عن دول وحكومات ذات تصنيف ائتماني أفضل.
إضافة إلى إبرام اتفاقيات للحصول على قروض ميسرة أو تسهيلات ائتمانية مباشرة مع دول صديقة كروسيا والصين وإيران والهند، أو مؤسسات دولية كالبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، أو بنك التنمية الجديد المنبثق عن دول مجموعة البريكس (روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا)، أو البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي. إلا أنه يجدر القول: إن تكلفة الحصول على هذه القروض والشروط المرتبطة بمنحها تلعب دوراً رئيساً، في تحديد الجهة التي يمكن أن يقع الخيار عليها لتأمين التمويل اللازم لما لهذا الأمر من تأثير مباشر في سيادة الدولة السورية واستقلال قرارها الاقتصادي والسياسي. كما يمكن عقد مؤتمر دولي للمانحين تشارك فيه دول ومنظمات عديدة يهدف إلى تأمين التمويل اللازم لإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
رغم صعوبة تقدير حجم إسهام هذا المصدر، إلا أنه يمكن افتراض قدرة الاقتصاد السوري بإمكاناته الكامنة على الوصول إلى نسبة اقتراض تتراوح بين 30 بالمئة و60 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي المحقق قبل الأزمة البالغ 60 مليار دولار أميركي كحد أدنى، أي ما يعادل مبلغاً، يتراوح بين 18 و36 مليار دولار أميركي.
تشكل الاستثمارات الأجنبية المباشرة أحد مصادر التمويل المهمّة لعملية إعادة الإعمار التي يُتوقّع أن تتدفق إلى الاقتصاد السوريّ، ذلك لما يحمله هذا الاقتصاد من إمكانات إنتاجية كبيرة، وفرص استثمارية واعدة في المجالات والقطاعات كافة، وبمقارنة حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تدفقت إلى سورية قبل الأزمة مع حجم الاستثمارات التي استمرت بالتدفق إلى دول المنطقة والجوار ولا سيما لبنان والأردن ومصر فإنه من المتوقع أن يتراوح إسهام هذا المصدر بين 3 و4 مليارات دولار أميركي.
 ولأموال المغتربين السوريين في الخارج أهمية بالغة يعول عليها بشكل كبير وجدي للإسهام في عملية إعادة إعمار سورية. وقد يرغب المغترب السوري في الإسهام في عملية إعادة الإعمار، من خلال توظيف أمواله على شكل ودائع في المصارف السورية المحلية، ذلك بغية دعم قدرتها على الإقراض. أو قد يأخذ إسهامه شكل اكتتاب على سندات خزينة صادرة عن الدولة السورية، سواء أكان ذلك بالعملة المحلية، أم العملة الأجنبية. كما يمكن للمغترب السوري أن يفتتح فرعاً لشركته في سورية، أو أن يقوم بشراء أسهم لشركات سورية.
تشير التقديرات الرسمية وغير الرسمية إلى أن حجم رؤوس الأموال السورية الموجودة في الخارج التي تراكمت خلال العقود الخمسة الماضية يتراوح بين 80 و140 مليار دولار أميركي. ولقد أسهمت الأزمة الحالية من دون ريب، في هروب جزء إضافي مهمّ من رؤوس الأموال السورية إلى الخارج بطرق مختلفة، ولا سيما إلى دول الجوار، يمكن تقديره بنحو 20 مليار دولار أميركي. بعضها أخذ شكل إيداعات في المصارف، وبعضها تم استثماره في مشروعات صناعية وخدمية، كان للخبرة السورية فيها اسمٌ عريق وباعٌ طويل. فالودائع السورية في لبنان قبل الأزمة كانت تقدر وسطياً بـ16 مليار دولار أميركي من أصل 144 مليار دولار أميركي حجم الودائع في البنوك اللبنانية. ومع بداية الأزمة السورية ارتفع رقم احتياطي مصرف لبنان بشكل خاص من 29 ملياراً إلى 37 ملياراً، ولم تعلن السلطات النقدية اللبنانية مصدر هذه الزيادة، رغم أن هذه المدة شهدت انخفاضاً في واردات السياحة اللبنانية وضعف التحويلات من الخليج وأوروبا، وهذا يدل على أن هذه الزيادات الكبيرة والمفاجئة مصدرها سوري بشكل أساس. وفي الأردن، تُقدر رؤوس الأموال السورية المستثمرة حتى نهاية عام 2014، نحو 140 مليون دولار وتشكل نحو نسبة 15 بالمئة من حجم الاستثمارات الأجنبية فيه، على حين بلغ عدد المستثمرين السوريين 191 مستثمراً، وبلغت المصانع السورية المسجلة هناك 370 مصنعاً. وتُقَدّر بعض المصادر رؤوس الأموال السورية التي هربت إلى مصر للاستثمار بملياري دولار، إذ ناهز عدد المستثمرين السوريين في القاهرة وحدها 100 مستثمر وظفوا أموالهم في قطاعات مختلفة، كان أهمها صناعة الألبسة الجاهزة والمطاعم والمحال التجارية، كما أنشأ السوريون هناك 70 معملاً وهناك 300 شركة قيد الإنشاء، ما وفر بحدود نصف مليون فرصة عمل. كما يُقدر مجموع الاستثمارات السورية في تركيا بـ1,2 مليار دولار. إذ توجه الكثير من رجال الأعمال مع أموالهم وممتلكاتهم إلى الأراضي التركية بفعل الأزمة، وتم نقل العديد من المعامل وخطوط الإنتاج القريبة إلى هناك، تحديداً إلى إقليم هاتاي التركي، وقد شكل عام 2015 عام إنشاء الشركات السورية في تركيا، حيث وصلت أعدادها إلى أكثر من عشرة آلاف شركة مسجلة وغير مسجلة، بحسب تقارير صادرة عن الحكومة التركية شكلت نسبة 22,3 بالمئة من مجموع الاستثمارات الأجنبية عام 2015 في تركيا الذي بلغ حدود 300 مليون دولار. بعد أخذ العوامل الموضوعية المتعلقة بخروج رؤوس الأموال للمواطنين السوريين التي تعود لما قبل الأزمة وتلك المتعلقة بالأزمة الراهنة، فإنه يمكن تقدير حجم هذا المصدر ليتراوح بين 20 مليار دولار أميركي كحد أدنى، نتيجة عودة تلك الأموال التي غادرت بفعل الأزمة و30 مليار دولار أميركي، نتيجة القدرة على استقطاب 10 بالمئة من الأموال السورية الموجودة في الخارج.

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات