كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن التهرب الضريبي وتأثيراته السلبية في المجتمع، الأمر الذي دعا المعنيين في وزارات الدولة عامةً، ووزارة المالية خاصةً، إلى أخذ المبادرة بطرح جملة من مشاريع الإصلاحات التشريعية والإدارية لنظام الضرائب والرسوم. إن ما نحاول تقديمه اليوم بهذا الخصوص، هو عبارة عن مقترح مهني وعلمي لتفعيل دور وزارة المالية في تعزيز نظام الضرائب والرسوم، وسعياً للحد من جريمة التهرب الضريبي بما ينعكس إيجاباً على المصلحة العامة.

       تعود مشكلة التهرب الضريبي أصلاً إلى ضعف الثقافة القانونية والمجتمعية الخاصة بأهمية دفع المكلفين لضرائبهم الحقيقية، ومدى انعكاس ذلك، إيجاباً أو سلباً على الأفراد والمجتمع والمصلحة العامة؛ وتظهر هذه المشكلة نفسها في سعي بعض المكلفين إلى استغلال وجود ضعاف النفوس من مسؤولي الضرائب لإيجاد طرق غير قانونية للتهرب الضريبيّ، ذلك أن القوانين والتشريعات الخاصة بفرض الضرائب تعتمد أساساً، على التقديرات البشرية (مراقبو الضرائب)، دون الاستناد إلى فكرة الرقابة المزدوجة، أو التقارير المالية من جهات حيادية تعمل على تقدير حركة أموال المكلف ضريبياً، أو تعتمد على تلك البيانات التي يقدمها المكلف نفسه. وقد آن الاوان لتغيير هذه الآلية بالاستفادة من التطور الحاصل لدى باقي القطاعات ذات الصلة.

     يتم الحديث اليوم والتوجيه من قبل الحكومة نحو تفعيل دور الدفع الالكتروني وبناء منظومته الالكترونية، ذلك يمكن تفسيره بقناعة الحكومة بما تحققه هذه المنظومة من تفعيل إيجابي لتنفيذ السياسة النقدية من جهة، والمعرفة الحقيقية لأنشطة القطاع الاقتصادي من جهة أخرى، خاصة للقدرة المتاحة من خلال أرقام الاعمال المُنجزة التي تشكل بيانات حقيقية أمام مُتخذ القرار، تساعده في قرارته التي ترسم وتترجم سياساته النقدية والاقتصادية.

      كما أنه ينبغي في أُفق هذه الإرادة، التوجّه اليوم نحو مشروعٍ مستقبليّ يحمل تسمية الحكومة الالكترونية، إذ يمكننا بما هو مُتاح وموجود اقتراح الربط المهني والعلمي بين مسعى الحكومة والإصلاح الضريبي.

        فعندما تم إدراج التهرب الضريبي في المرسوم التشريعي رقم 46 لعام 2013 كجريمة من جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، لم يكن ذلك اعتباطاً أو بالمصادفة المحض، وإنما هو تأكيد من قبل المشرع على التأثير السلبي لهذا الجرم في المصلحة العامة، فقد تمّ عدّه جرماً معاقباً عليه كجريمة لغسل الأموال وتمويل الارهاب. ومن المعروف قانوناً أن الجهة المسؤولة عن مكافحة ومراقبة ومتابعة جرائم غسل الأموال هي الهيئة المُحدثة بهذه التسمية، أي "هيئة مكافحة غسل الاموال وتمويل الارهاب".

        إذن، نحن إزاء مؤسستين حكوميتين تُعنيان بالجريمةِ ذاتها، فمن المنطقي أن يتم رسم خطة للعمل المشترك بينهما، ولكن ليس ورقياً وإنما عملياً، ولو تم ذلك لما كنا اليوم أمام مقترحات تخص مكافحة التهرب الضريبي غير المضبوط. وبناءً على ذلك يمكننا اليوم طرح الآلية التالية:

أولاً: تتم بدايةً دراسة شكل الربط المعلوماتي بين القطاع المصرفي (المؤسسات المالية المُرخصة) والجهاز الضريبي (وزارة المالية) وبطريقة لا يتم فيها تجاوز قانون السرية المصرفية، إذ يتم إرسال جملة البيانات عن الأنشطة التجارية إلى وزارة المالية لتتم مقارنة هذه البيانات مع الإفصاحات الضريبية للمكلفين. وبذلك يتم بداية منع التلاعب بهذه الأرقام التي تدل على حجم الاعمال.

ثانياً: يتم العمل على وضع مصفوفة للتصرفات القانونية ذات الأثر المالي، إذ لا يتم قبول التسويات المالية للأعمال ذات الغرض التجاري، إلا عن طريق المؤسسات المصرفية. وكمثال على ذلك يمكن تحديد تسويات البيوع العقارية حصراً عن طريق المصارف، كذلك الأمر في قطاعات أخرى أو بيوع أخرى. هذا الاجراء يمكن أن يكون مفيداً في تحقيق مكافحة جريمة غسل الأموال الناجمة عن التهرب الضريبي، بالإضافة إلى الفوائد التالية:

  1. التمهيد مبدئياً لتوجيه جميع الأفراد نحو فتح الحسابات المصرفية لتمكينهم من التسويات المالية لتصرفاتهم (تنفيذاً للمصفوفة المذكورة أعلاه)، ونكون قد حققنا بذلك التمهيد لمشروع الحكومة بتفعيل الدفع الالكتروني، ذلك أنها تتطلب بشكل أساسي حسابات مصرفية من جهة، وتمهيداً لتطبيق مفهوم المنظومة الالكترونية بشكل عام من جهة أخرى.
  2. يتم ضبط الإيداعات النقدية والحوالات المالية الناتجة عن التصرفات القانونية بغرض التسوية المالية للبيوع. وبالتالي يتم تحقيق متطلبات مصرف سورية المركزي ورقابته وفق ضوابط (KYC) أي )اعرف عميلك).
  3. تمكين الجهاز الحكومي من الوقوف على إحصائيات وقاعدة بيانات غاية في الأهمية، إذ تُتيح له وتساعده على اتخاذ القرارات المناسبة فيما يخص السوق الاقتصادي والاجتماعي والاستهلاكي وغيره، كون عمليات البيع والشراء أصبحت، إحصائياً وكمياً، مطروحة أمامه بأرقام حقيقية وليست تقديرية.

ثالثاً: يتم العمل وبشكل استراتيجي على إدخال القطاعات المشمولة بالتسوية المالية المصرفية، حسب رؤية الحكومة وأهمية تلك القطاعات (بيع العقارات، وتجارة الجملة، والقطاع الصحي أوالدوائي، والاستيراد.... الخ) في المصفوفة الالكترونية لتسويات البيوع.

رابعاً: يُطلب عن طريق مصرف سورية المركزي، وفقاً للضوابط غير المخلّة بالأنظمة والقوانين، خاصة تلك المتعلقة بالسرية المصرفية، التوجيه إلى المصارف حسب نوعية أو فئة التصرف القانوني المًبين أعلاه، إرسال أرقام أعمال الأفراد إلى وزارة المالية للمطابقة مع التكليف الضريبي. الأمر الذي يمنع التلاعب بالأرقام أو المطارح الضريبية.

 

      إن العمل -وفق ما تم اقتراحه- على الربط المهني بين وزارة المالية والقطاع المصرفي، عن طريق مصرف سورية المركزي، إنما يمهد لإنشاء بنية تحتية صحيحة للحدِّ من جريمة غسل الأموال المتمثلة في التهرّب الضريبي، وبالمقابل يمهد للمشروع الحكومي الخاص بالدفع الالكتروني وتكوين إحدى ركائزه المتمثلة بتوسيع قاعدة الحسابات المصرفية، الأمر الذي يمهد مستقبلاً لطرح فكرة المنظومة الالكترونية للتسويات المالية، وبالمقابل يمكننا الحديث عن تشجيع القطاع الاقتصادي على الاستثمار فيه بوساطة شركات الدفع الالكتروني وتعدد قنواته المصرفية ووسائله الالكترونية، وبالنتيجة الإسهام في وسائل إنجاح فكرة المحول الوطني للمدفوعات الالكترونية التي تم الاعلان عنها، من قبل مصرف سورية المركزي، وتحقيق الهدف الرئيس في الحد من التهرب الضريبي وغسل الأموال وتمويل الارهاب.

    وعليه، يمكننا بوساطة هذه الآليّة الحديث عن عملية الاصلاح الضريبي، وفق تفكير يتلاءم مع المشروعات الحكومية من جهة، والحد من التهرب الضريبي الذي يفوت على الخزينة العامة مليارات الليرات دون وجه حق ومكافحة غسل وتمويل الارهاب من جهة ثانية.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات