المقصود بالإرهاب هنا تحديداً، ذلك المتمثل في (دولة الخلافة) أو (داعش) وإن كان الإرهاب يشمل ويتسع لمجموعة من الفصائل الفاشية المسلحة والتي تتخذ لها شعار (الإسلام هو الحل) تحت غطاء مزيّف يجد جذوره في الإسلام السياسي بدءاً من جماعة الاخوان المسلمين وانتهاء بجبهة النصرة (التي تمثل فكر القاعدة) وما بينهما من فصائل تحت مسميات مختلفة تستلهم التاريخ وعصور الجاهلية والقرون الوسطى. ترعاها قمم (الحضارة المنافقة) في أمريكا وأوربا وتدفع لها مشايخ النفط.

واختياري لـ(داعش) نظراً لما تمثله من خلاصات الفكر التكفيري من جهة، ولأنها مشروع (مؤدلج) يكاد يتكامل في ظل ما يدعى (الخلافة الإسلامية) من جهة ثانية، ونظراً لأن العديد من السياسيين والمفكرين والمثقفين العرب لم يعطوا هذا التنظيم ما يستحقه من الاهتمام، لا، بل إن البعض (وهم كثر) استخفوا بهذا التنظيم - ولم يتعمقوا بأبعاده الفكرية والسياسية، وربما يكون التنظيم قد نجح في تقديم نفسه على هذا النحو الذي يجعل العديد من المسؤولين والمفكرين والمثقفين العرب (يضيع) في تفسير تصرفات التنظيم وسلوكه، وفي تفاصيل عملياته الإرهابية، وبالتالي الانصراف إلى  المعالجة الامنية والعسكرية دونما أفق سياسي وثقافي يكشف عن فكره التكفيري وأبعاده السياسية ومنهجيات عمله وأهدافه الآنية والبعيدة. بل إن البعض من دول وافراد، فكّر في الاستفادة من داعش بدافع الحقد والثأر، فقدّم له العون، أو وقف على الحياد، في صراع التنظيم مع الدولة السورية.

وعدا ممارسات (الدولة الإسلامية) اليومية، وعملياتها الإرهابية المعلنة، وأساليب نشرها باستخدام أحدث الوسائل الاعلامية، بهدف إدخال الرعب والخشية من مخالفة أوامرها، في نفوس الناس (داخلياً وخارجياً) عدا ذلك فإن هناك العديد من المؤلفات المعتمدة من مراجعها السياسية والقيادية والدعوية ما يلقي الضوء على (إيديولوجيتها) وأبعادها الموغلة بالتاريخ والجاهلية والانحطاط الفكري والأخلاقي. مما يستدعي ضرورة وأهمية دراسة ذلك كله دراسة دقيقة للوقوف على حقيقة ما يريده هذا التنظيم الخطير على حاضرنا ومستقبلنا.

وما يهمنا بيانه في هذه العجالة هو الجانب الاقتصادي والمالي تحت عنوان (الاقتصاد السياسي للإرهاب) نظراً لأهمية هذا الجانب في ضمان استمرار التدفق المالي لإمداد (التنظيم) بالموارد المالية، ليس فقط من أجل تمويل عملياته العسكرية والأمنية، وإنما أيضاً ما يساعده على (بناء الدولة) وتأسيسها على قاعدة مادية صلبة مستوحاة من قواعده الشرعية كما رسمها وأرادها، وبالعودة إلى  بعض (أدبيات) تنظيم داعش، ومن بعض ما يقوم به من سلوكيات وأوامر مالية واقتصادية نجد أنه كان حريصاً دائماً على تأمين مصادر (ثابتة ومبتكرة) لتمويل عملياته (دولته) وضمان تمددها، وهو في حالتي جمع موارده وتوجيهها نحو الإنفاق يعمل على تنفيذ توجهاته السياسية والعسكرية والإيديولوجية، مستخدماً المال هدفاً ووسيلةً وأداة، مستفيداً مما تتيحه له (ولغيره) العولمة والانفتاح الاقتصادي ووسائل الاتصال والتحويلات المصرفية (كما تعمل تنظيمات المافيا والجريمة المنظمة).

يساعده في ذلك (الفوضى) الخلاقة التي عملت الولايات المتحدة على إحداثها في المنطقة العربية، فضلاً عن (الفوضى) العارمة التي أوجدها التنظيم نفسه، والتي تعتبر ركناً أساسياً في استراتيجيته. وقد تبدى ذلك بدقة في حال العراق خلال الاحتلال وبعده، فقد أدت فوضى الاحتلال إلى  خلق الظروف المواتية للتسليح الواسع بين الناس في أقل التكاليف، فضلاً عن عمليات النهب والسرقات للممتلكات العامة والخاصة، وبضمن ذلك عمليات الخطف وما يقابلها من دفع (ديات) مالية مرتفعة. فقد أسهم ذلك كله في تأمين موارد مالية هائلة لتنظيم القاعدة في العراق (وهو الأب الروحي لداعش). واتبع التنظيم بعد ذلك الأساليب نفسها لدى احتلال الموصل، وفي سورية مع احتلال الرقة وغيرها من البلدات السورية.

لكن ذلك كله كان مصدراً من المصادر العديدة للتمويل الداعشي، لكن إلى  جانب ذلك كانت مصادر أخرى لا تقل أهمية، فهناك وبشكل أساسي التمويل الخليجي الذي تقوم به جمعيات منظمة من خلال التبرعات الهائلة التي تجمعها تحت مسميات مختلفة وبهدف إقامة (دولة الخلافة) و(القضاء على حكم الكفار)، وكانت الحكومات الخليجية تدعم أنشطة هذه الجمعيات سواء على نحو مباشر أو غير مباشر.

من خلال جمع التبرعات، كان الهدف الاستراتيجي العام هو استمرار شحن وتجييش الأوساط الشعبية والدينية والتجارية والمالية وتوجيهها نحو دعم توجهات (داعش) الإيديولوجية، تعزيزاً لخطابه السياسي - الديني - الفاشي المدعوم من بعض الحكومات وخاصة السعودية والقطرية والتركية - ليحيل ذلك كله إلى  عملية تمويل الإرهاب الداعشي والقاعدة والمنظمات الأخرى من خلال الشبكات الفردية والجماعية المنخرطة على نحو مباشر أو غير مباشر في النشاط الإرهابي برعاية أمريكية وأوربية تحت عنوان (مساندة الإسلام السياسي في مواجهة القوى القومية والوطنية والتقدمية) وإلى جانب هذه المصادر هناك مصادر أخرى لا تقل أهمية مثل:

أ- التجارة في السوق السوداء وتجارة الممنوعات وعمليات تبييض الأموال والاتجار بالآثار والبشر.

ب- تجارة النفط المسروق وبضمن ذلك المصادر الأخرى للطاقة (الغاز والكهرباء) إذ كان واضحاً حرص التنظيم منذ وقت مبكر على الاستيلاء على آبار النفط والغاز والتحكم بشبكة توزيعهما، تحقيقاً لأهداف عدة، فعدا  كون ذلك يشكل مصدراً هاماً للتمويل فإنه يستخدم للضغط والابتزاز للمجتمعات المحلية وللحكومة (العراقية والسورية)، وتدخل أموال الصدقات أحد اهم الموارد الرئيسية للتنظيم.

ج. الضرائب والرسوم والأتاوات و(الزكاة) وغيرها من مسميات وأساليب تفرض على الناس الذين يشكلون المجتمعات التي وقعت تحت سيطرة التنظيم.

د. غنائم الحرب وهي تشكل مصدراً هاماً للتمويل ابتداء من وضع يدها على مؤسسات الدولة وسرقة المصارف والأماكن الدينية (مساجد وكنائس) وكذلك بيوت سكن المواطنين التي اعتبرها التنظيم غنائم حرب واستباحها تحقيقاً لأغراضه. وفي مجال الموارد (لتنظيم الدولة) يهمنا الإشارة إلى  أمرين:

الأول: بالطبع فإن الموارد تمثل مصدر تمويل عمليات التنظيم الإرهابي ولكنها في الوقت ذاته تستهدف إضعاف الدولة الشرعية وتهديد مصادر مواردها التقليدية، وبالتالي إضعاف قدراتها القتالية، والإخلال بقدرتها على تقديم الخدمات للمواطنين، مما يزيد من حالة الفوضى ويشجع حالات التذمر بين الناس، ويؤهلهم للانخراط في مهاوي الانحراف والفساد والتهريب والجريمة، وربما يدفع ببعضهم إلى  تقبّل الالتحاق بعصابات الإرهاب.

الثاني: يتعلق بمسألة جمع التبرعات لتنظيم الدولة فهي وإن أخذت طابع التبرع الطوعي إلا أنها تخفي أيضاً عمليات الضغط والابتزاز والتهديد التي يتبعها التنظيم في إجبار (المقتدرين) على التبرع، لكنها في الوقت ذاته تخلق سلوكاً يأخذ طابع استقرار في علاقة المتبرع بالتنظيم مما يولد حالة من الانتماء غير المباشر لأهداف التنظيم الإرهابي.

والوجه الاخر لاقتصاد الإرهاب يتمثل في عملية الإنفاق، فعدا تمويل العمليات الإرهابية (والحربية) وخاصة ما يتعلق بدفع الرواتب المجزية للمقاتلين، فإن التنظيم يستخدم الإنفاق لتحقيق أهدافه. ولعل من بين أهم هذه الاهداف ما يدعوه التنظيم في أديباته (استقطاب الناس لصف أهل الايمان) (وهو الاستقطاب بالمال (لتأليف) قلوب الناس من الأعداء وممن هم على الحياد، فنعطيهم شيئاً من الدنيا لجذب ولائهم لنا) ويكشف عن أهم طرق جلب ولاء الناس للتنظيم، إذ يشرح هذه الطريقة شرحاً وافياً ينم عن معرفة دقيقة بأحط أخلاقيات بعض أفراد المجتمع، وإذ يرى أن بعض الناس يدخل في ولاء أهل الباطل للمال فقط (مع علمه بالحق) ولكن حب الدنيا وإيثارها لا يلحقه بأهل الإيمان. فعندما توفر لهم هذا المرجح (أي المال) يدخلون في ولاء أهل الإيمان، فإذا دخلوا واختلطوا بأهل الإيمان وعايشوا أحوالهم (ورأوا النور والكرامات والآيات) وخالطت قلوبهم (بشاشة الإيمان) لانت قلوبهم للحق وعملوا لأجل الدين فقط، كما يؤكد ذلك مؤلف كتاب إدارة التوحش. ويدعى هؤلاء بـ(المؤلفة قلوبهم) وأغلبهم من الشعوب والجنود المسحوقين اقتصادياً وبعض الرتب الدنيا من الجيوش.

وإذ يتمسك التنظيم بتطبيق الشريعة الإسلامية بما يخدم أهدافه فإنه يسترجع التاريخ والنصوص الشرعية المتوارثة في الكتب القديمة والروايات في معالجة مسألة صرف الأموال، ولكنه كما يبدو يقف حائراً أمام أبواب صرف لم تكن معهودة سابقاً، لهذا فهو يدعو (الراسخون في العلم) من أهل التوحيد والجهاد لتأصيل وبيان تفاصيل كيفية صرف بعض الأموال لبعض (الطائعين) من الناس ونحو ذلك لتأليف قلوبهم حتى يعطوا الولاء (لإدارتنا) وتكون تفاصيل وقواعد هذا الأمر معلنة وواضحة بحيث لا يقع شيء في النفوس. وإذ يقر التنظيم ودعاته بأن معركتهم ليست معركة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، بل هي معركة (توحيد ضد كفر وإيمان ضد شرك) إلا أنه يلوح لـ(ضعاف النفوس) بالوعد (باستعادة) الاموال والحقوق (مال الله) الذي تسلط عليه الأشرار.

ويعود للسياسة الشرعية في العهد النبوي التي تتضمن وقائع كثيرة تم فيها استخدام المال لتأليف القلوب، ويدخل في ذلك (التأليف) بالمناصب الشكلية غير المؤثرة على العمل والتي تعطي بعض الجاه لبعض رؤساء العشائر أو القرى مقابل إدخال أتباعهم في (حركة الجهاد) تحت إمرة قادة الجهاد.

والصورة المثالية لمهمات إدارة التوحش ومجالات إنفاقها والتي تتفق مع (مقاصد الشرع) تجدها في خطوطها العامة والتي تحدد هذه المهمات نحو:

- نشر الأمن الداخلي، وتأمين منطقة التوحش من غارات الأعداء.

- إقامة القضاء الشرعي.

- رفع المستوى الإنمائي ورفع الكفاءة/القتالية وإنشاء المجتمع المقاتل.

- العمل على بث العلم (الشرعي) والدنيوي.

- بث العيون واستكمال إنشاء جهاز الاستخبارات.

- تأليف قلوب أهل الدنيا بشيء من المال.

- ردع المنافقين بالحجة وغيرها وإجبارهم على كبت نفاقهم وكتمه.

- الترقي حتى تتحقق إمكانية التوسع والقدرة على الإغارة على الأعداء لردعهم وغنم أموالهم وإبقائهم في توجس دائم وحاجة للموادعة.

- إقامة التحالفات مع من يجوز التحالف معه.

وهذه المهام لا تخرج عن مهام (الدولة الليبرالية) في خطوطها العامة، إلا بتركيزها على البعد العسكري العدواني على نحو صريح، في حين أن الدولة الليبرالية تتضمن فكرة التوسع واستعمار الشعوب. وإن أخذ ذلك شعار الحضارة والتنوير في حين يلتقي مشروع الدولة الداعشية مع مشروع الدولة الليبرالية في غياب الجوانب الاجتماعية - الاقتصادية.

وربما يفسر ذلك، سكوت، او رعاية المؤسسات والمنظمات ذات الطابع الليبرالي، حيال سلوكيات وإرهاب تنظيم الدولة (داعش). فضلاً عن تسهيل عملياته التجارية والمالية من بعض الشركات متعددة الجنسية وبيوت المال.

النور


 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات