يكاد المرء يصاب بالدوار لزحمة ما يقرأ عنه من اجتماعات وملفات اقتصادية تطرحها الحكومة على طاولتها هذه الأيام، ثمة أنفاس مشبعة بالنيات الحسنة تعبق داخل أروقتها، وتبدو عازمة على القطع مع حالة الإغماء التي سادت ملفنا الاقتصادي لمعظم سني الحرب.

«آلية جديدة للمستوردات» مشفوعة بأقاويل حول العودة إلى «مظلومية» لوائح الاستيراد السوداء، ونشاط واسع بحثاً عن آلية لإطلاق مشروع وطني يدعم قيام قطاع واسع من المشاريع الصغيرة والأصغر والمتوسطة، الزراعية منها على وجه الخصوص، في سياق بناء ركيزة اقتصادية تتوالد معها سلاسل إنتاج جديدة تقلص الآلام الاقتصادية الاجتماعية التي تجتاحنا.

ومع هذا وذاك، ثمة عزم معلن على حل مشكلات المناطق الصناعية المنقطعة عن الصناعة، رغم اتفاقنا على أن الدماء الزكية التي بذلت لتحريرها، كانت تضع قدسيتها الاقتصادية نصب أعينها.
يبدو الانهماك الحكومي في لحظته الراهنة مواتيا تماما، فلم يعد من المقبول تلزيم الاقتصاد الوطني ولقمة الشرائح الهشة لسياسات «ماري إنطوانيتية» تقدس النزعة الاستهلاكية المفرطة لدى الأغنياء، وخاصة حين يتردى ذلك الاستهلاك إلى حدود «البسكويت السعودي» الذي كاد -لولا استنفاد صلاحيته- أن يدخل بطوننا تزامنا مع السواطير التي ترسلها الحثالة الملكية لتلك البلاد لتقطيع أمعائنا.
كما لم يعد مقبولا، النظر ببرود إلى آلاف المنشآت الاستثمارية «قيد التنفيذ» التي يعوق التمويل وبعض الإجراءات الإدارية البليدة، دبيب الحياة في ماكيناتها، لا بل بات من العار تقييد الإنتاج في مصانع ومنشآت قائمة على خلفية الإدارة المبتذلة «والفقيرة» لملف الديون المتعثرة والاحتياجات الطاقوية!
رغم حيويته، يصطدم النشاط الحكومي بتحول التفاؤل الشعبي إلى عملة نادرة، وليس التشاؤم هاهنا مكنونا ذاتيا حيال قدرة الحكومة على فعل ما تعلنه، فثمة قضية جوهرية ما زالت الغائب الأكبر عن طاولتها، وهي تحديداً ملف الديون المتعثرة الذي يمكنها الاستمرار في تجاهله، إلا أنها تقامر بذلك في تأخير الإعلان عن نقطة الذروة في الحرب الاقتصادية، فهذا الملف، ومعه حفنة من الأسباب الأخرى، هو من سيقرر الفائز بالحرب: نحن، أم الآخرون؟!
تقتضي الواقعية الاعتراف بما يعتمل ملف الديون المتعثرة من تشابكات، إلا أنه آن الأوان للإدارة الاقتصادية العليا أن تضع آلية تفاضيلة للتعامل مع كل ملف على حدة، بالتعاون مع الجهات الأمنية وحتى السياسية إن اقتضى الأمر، إذ لم يكن مجدياً الاستمرار بالانتحار المجاني أمام الأقدام المتورمة بالغنغرينا لـ«خبراتنا» المصرفية العاجزة أمامه، و«تعمشقها» بشعار «الحفاظ على الأموال العامة» ووقف التمويل الاستثماري لحين تحصيل الديون، فهذه الأخيرة لن تعود مطلقاً ما لم تتوقف مصارفنا عن عدميتها الاقتصادية عبر الانهيال على الاستثمار بـ«سواطير البيرقراطية» والضحك على المستهلكين بـ«البسكويت المستورد».
فما سيحققون في النهاية –ليس إلا- تعبئة مزيد من المتعثرين في الزنزانات، ومنهم رجال وطنيون بحق، دمرتهم الحرب معنا.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات