ترى هل كان يعرف الكاتب والصحفي المصري أنيس منصور، كم كان ضروريا أن يجلس مساءا في آخر أيام حياته، ليكتب زاويته الخضراء في جريدة الشرق الأوسط؟ ترى هل كان يعلم كم كان ضروريا أن يرسل سكرتيره وهو راقد في المشفى في آخر يوم من حياته إلى المنزل ليأخذ عن طاولته عموده اليومي إلى الجريدة؟!

 لأن الصباح كان يتوقف في جهة أخرى من العالم على عموده، في مكتب صحفي في دمشق حيث كنت أشرب القهوة مع بضعة سطور يكتبها بشكل يومي وعفوي، قرأته مدة تسعون يوما متلهفة ومسرعة لأقص الخيط البلاستيكي الذي يلف تلة من أهم الصحف العربية كما لو كان شريط هدية، كان عموده الرشفة الأولى من الصباح التي تسخن دماغي وروحي وتعطيني الطاقة طوال اليوم.

ثم في اليوم الـ واحد وتسعون بينما كنت مشتاقة زيادة كي يأتي الصباح بعد يومي عطلة، وأنفرد بنفسي مع صديقي الذي لا يدري بصداقتي وعموده، وبينما تتوثب عينيّ فرحا لأحزر ماذا سيكون عنوانه الطفل والمرح مثله رأيت خبر وفاته ..فبكيت كثيرا..بكيت بمرارة كما لو توفي لي قريب..لقد علمني هذا الكاتب والصحفي المبتسم والمطل من صورته الصغيرة أعلى العمود على صباحاتي، والذي ناهز من العمر ثمانين عاما عندما تعرفت إليه أخيرا، أن هناك بين الكاتب وقارئه قرابة، وأنه مسؤول عنه، وعليه أن يعلمه خبراته ويوفر عليه الألم والتجارب، ويواسيه، ويفتح له بوابات للسعادة، و ينتشله من وحدته، علمني أن الكاتب سيكتب يوميا ولو لقارئ واحد، لأنه يحترمه، ولأنه يخبره بالحقيقة!

 وكانت قبل أيام من وفاته وصلت بي درجة العشق لعموده أن خططت للسفر إلى مصر لأتعرف به شخصيا، لكن كان علي أن أجمع المال أولا، لم أعرف أنه كان يصارع المرض بالكتابة، وأن الكتابة كانت رفيقته في أمسياته الخالية من أي أحد إلا من قرائه اللذين تصلهم رسائله المنعشة للصباحات كفراشات أو كحفنة ياسمين، بالتأكيد كان يعرفني ويعرف لهفتي لمعرفة أفكاره ومشاعره.. ولا بد أنه أحب يوما ما كاتبا كما أحببته أنا ..حتى حرص على أن يرسل لي آخر كلمة..وكانت بعنوان "لا أحب أن أنشغل عن الكتابة"!

سيريا ديلي نيوز - حلا خيربك


التعليقات