فاجأت أحداث تونس، صناع القرار في الرياض ودمشق، ولكن الطرفين لم يلتفتا في شكل كبير إلى حجم التغيرات الحاصل في المنطقة إلا بعد انتقال شرارة الاحتجاجات إلى مصر، ونجاح شباب ميدان التحرير في اجبار الرئيس حسني مبارك على الاستقالة.

قراءتان مختلفتان...

ورأت سورية أن سقوط زعيمين عربيين محسوبين على الغرب في أقل من شهر يعدّ انتصاراً كبيراً لتيار الممانعة، وتقوية للمحور المقاوم، وسقوطاً مدوياً لاتفاقات كامب ديفيد، وسياسات الولايات المتحدة وأنصارها في المنطقة العربية، وبعد انتقال الأحداث إلى سورية ذاتها في منتصف مارس/ آذار 2011 اعتبرت أن ما يجري مؤامرة تستهدف دورها الممانع، باستخدام عصابات مسلحة ومندسين لبث الفوضى والتآمر على المقاومة في سورية ولبنان وفلسطين، وعرضت وسائل الاعلام السورية تفاصيل قالت إن الأمير بندر بن سلطان أعدها في إطار محاولة لقلب نظام الرئيس بشار الأسد. وبعد امتداد الاحتجاجات إلى المناطق الشرقية في السعودية، وكذلك إلى البحرين، ألقت الرياض بالمسؤولية على إيران في محاولة إثارة فتنة في هذه المناطق، ودعم الاحتجاجات بمساعدة رموز دينية، وأمطرت أبناء المملكة بمليارات الدولارات عبر رفع المعاشات، وتقديم قروض شخصية وقروض للمنازل، وغيرها. وفي ذات الوقت قمعت المظاهرات على أراضيها، وأرسلت قوات درع الجزيرة لمساعدة البحرين على وقف الاحتجاجات المتصاعدة فيها، وسياسياً فاجأت دول مجلس التعاون الخليجي العالم بدعوة المغرب والأردن للدخول في مجلس التعاون الخليجي، في خطوة مازالت محط تساؤل وتحليل حتى الوقت الحاضر، خصوصا أن العراق، واليمن يمثلان الامتداد الطبيعي للمجلس. ولعل اللافت أن الرياض نأت بنفسها رسمياً في الأشهر الأولى للحراك في سورية عن التعليق على مايجري.

العراق بيضة القبان...

تدرك دمشق والرياض الدور المهم للعراق في المنطقة، لموقعها الجغرافي، وأهمية موقف مختلف الكتل السياسية فيها على مستقبل الحراك في البلدين الجارين، إضافة إلى تصاعد النفوذ الإيراني منذ سقوط نظام الرئيس صدام حسين، وصعود رئيس الوزراء نوري المالكي إلى رئاسة الوزراء، وحقيقة لم تكن بغداد بمنأى عن قياس ميزان الخلاف أو الاتفاق بين دمشق والرياض، ففيما رفضت دمشق غزو العراق العام 2003، وفتحت الحدود للبعثيين العراقيين السابقين، دفعت السعودية ملايين الدولارات لتمويل الحملة بسرية وهدوء، وشملت المدفوعات دعم مسؤولين وضباط كبار في نظام الرئيس الراحل صدام حسين. لكن الجانبين اتفقا في مرحلة من المراحل على دعم إياد علاوي والقائمة العراقية في محاولة للتخفيف من النفوذ الإيراني، وعارضا طويلا تولي المالكي منصب رئيس الوزراء لمرة أخرى عقب الانتخابات في 2010، واليوم ترى الرياض في حكومة المالكي جزءاً من محور مذهبي يمتد من طهران ليصل بغداد ودمشق وبيروت. ورغم عودة العلاقات الدبلوماسية بين بغداد والرياض عشية قمة بغداد في مارس/ آذار الماضي، إلا أن السعودية تتهم المالكي بدعم دمشق مادياً ومعنوياً وبأنها معبر لشحنات أسلحة ورجال تأتي بانتظام لقمع المتظاهرين السوريين. الانتقاد السعودي لحكومة المالكي جاء بعد خروج الرياض عن إستراتيجية الصمت والسرية إزاء ما جرى ويجري في الوطن العربي منذ أكثر من عام بعد "الربيع العربي". ففيما احتلت قطر الواجهة في أحداث تونس وليبيا ومصر، خرجت الرياض عن سريتها إزاء ما يجري في سورية بعدما منحت الدوحة الوقت الكافي لإيجاد حل للأزمة السورية. ودعت على لسان خارجيتها الأمير سعود الفيصل إلى دعم المعارضة السورية وتزويدها بالسلاح، واعتبرت ذلك أمراً واجباً. وكانت السعودية أول دولة عربية تغلق سفارتها في دمشق، وصارت رأس حربة للحلف الذي يدعو لتنحي الرئيس بشار الأسد، إذ تفيد بعض المعلومات الصحفية أنها نجحت بالفعل في إيصال أموال وأسلحة متطورة إلى ما يعرف بالجيش السوري الحر عبر الأردن ولبنان.

38 مليار لعيون مبارك

ويرى البعض أن السعودية نجحت خلال العام الفائت في أخذ مكان مصر في العالم العربي، وأنها بدأت تتصرف على هذا النحو، لكن العقبة الباقية هي سورية التي أثبتت أنها لا تزال قادرة على الصمودحتى الآن. ويقولون إن الرياض التي منحت اللجوء السياسي للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، هي التي فرشت ملايين الدولارات لضمان وصول الإسلاميين إلى السلطة. وينطبق الأمر نفسه على مصر، حيث خرج وزير خارجية السعودية المخضرم، سعود الفيصل، ليكشف لوسائل الإعلام أن بلاده عرضت على مصر 38 مليار دولار ليكفوا عن إذلال مبارك. وحسب النجاح الجزئي، للصفقة المغرية، فقد وضع مبارك في مستشفى بدل اعتقاله في سجن، وتتم محاكمته في غياب آلات التصوير. لكن الموقف من سورية يبدو مغايراً، أو كأنه تصفية حسابات لتاريخ طويل من العلاقة التي نازعت فيها دمشق السعودية على زعامة العالم العربي. ومن هنا يمكن أن نفهم سر الحماسة السعودية المفاجئة على لسان رئيس دبلوماسيتها، بدل الاعتماد على الآخرين أو ماكينة الإعلام الكبيرة التي تمتلكها كمحطة العربية، وبعض الصحف النافذة في الوطن العربي.

بين سورية والبحرين واليمن

سارعت السعودية إلى دخول البحرين المتاخمة لحدودها، وكجزء للخروج من الأزمة البحرينية طرح قبل أيام مشروع إتحاد بين البحرين والسعودية، على خلفية مخاوف من سيطرة "شيعة البحرين" على الحكم. وعلى المنقلب الآخر تصور سورية ما يجري في البحرين بثورة شعبية ضد التمييز في المواطنة، واستئثار القلة بموارد البلاد. وبدل أن تلعب السعودية دور الوسيط في الأزمة السورية، كما حدث في اليمن، فإنها دخلت طرفاً في الصراع. ويذهب محللون إلى أن مبادرة الجامعة العربية بشأن سورية، جرى تصميمها في الرياض على شاكلة المبادرة الخليجية في اليمن، لكنهم يشيرون إلى أن استنساخ الحلول لم يكن الحل الأمثل، ذلك أن ماكينة المال والإعلام التي نجحت في قلب نظام الحكم في مصر وليبيا، إضافة إلى السلاح، تفقد دورها في حالة طول أمدها، وهو ما تعيه دمشق جيداً إذ استطاعت اللعب على الوقت مستفيدة من التجارب العربية الأخرى، ولا سيما الليبية منها والتي أدى التدخل العسكري فيها إلى مقتل أكثر من 50 ألف ليبي أغلبهم من المدنيين. وتفيد وكالات أنباء عن مصادر خليجية أن القذافي لقي مصيره المؤلم بسبب طول لسانه على حكام الخليج، ويصح الأمر نفسه على الرئيس السوري، بشار الأسد، إذ يذهب محللون إلى أن زعماء عرب لم ينسوا تشبييه لهم بـ "أنصاف الرجال" على خلفية الموقف العربي المتخاذل أثناء وبعد حرب تموز 2006 بين حزب الله وإسرائيل. ورغم أن النموذج اليمني لا يزال غير مبشر، بعد تنحي الرئيس علي عبدالله صالح عن الحكم، إلا أن الدبلوماسية السعودية التي خرجت إلى العلن، تاركة نظيرتها القطرية خلفها، تصر على حل مشابه له في الحالة السورية، وإذا فشل الأمر فحل على الطريقة الليبية، من المؤكد أن ثماره غياب الاستقرار وربما حرب أهلية أو حتى إقليمية..

الاستفادة من الدرس الليبي

ويرى مراقبون أن تطبيق السيناريو الليبي في سورية سيغيِّر خريطة المنطقة، وستكون له تداعياته المدوية على سائر دول منطقة الشرق الأوسط في ضوء حلف معلن بين سورية والعراق وإيران، وقطاع واسع من الشعب اللبناني. ناهيك عن أن العالم قد استفاد من عبر ودروس ما جرى على الأرض الليبية، إذ توضحت الصورة على أنها حرب انتقام وحرب من أجل النفط، ولهذا يقللون من استنساخه في سورية الغنية لا بنفطها ولكن بزراعتها ومواردها الطبيعية، وبدورها المحوري الذي يهدد بالتقليل من زعامة الرياض للعالم العربي. وفيما يصعب على الجميع معرفة ما يخفيه المستقبل لسورية، إلا أنه من المؤكد أن قيادة السعودية للعالم العربي هو أمر صعب المنال، رغم علاقتها القوية بواشنطن والغرب، فالمال لا يكفي أحياناً لبسط النفوذ، ولا سيما في الحالة التي نراها من تململ العالم وانقسامه حيال الذهاب بعيداً في الخيار العسكري ضد سورية، وهو بكافة المقاييس ليس الخيار الأنسب للمنادين بالديمقراطية وحق الشعوب في الحياة الحرة والكريمة. روسيا اليوم سامر الياس (المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)     سيريا ديلي نيوز

التعليقات