سيريا ديلي نيوز- د.عصام التكروري

لعل أكثر ما بات يميز حياة سوريي الداخل هي الجرأة التي باتوا يداعبون بها مخالب الموت اليومي مقابل الفزع الذي يعتريهم أمام الفرح، فالحرب جعلتهم يحذرون الفرح لقناعتهم بأن خيانته قاسية -كما قال محمود درويش- لذا تراهم يعملون بنصيحة أندريه جيد: «لا تهيئ أفراحك» وتحديدا إذا كان مصدر هذا الفرح خبراً جرى التوصل إليه بطريقة «التحليل السياسي».

في الحقيقة، ومنذ بداية الحرب العالمية للإرهاب الدولي على سورية اعتاد مواطننا على لغة «التنبؤ الجازم» (لاحظوا التناقض) لمسار هذه الحرب، تنبؤ تمارسه شريحة لا بأس بها من المحللين السياسيين الذين وصل الأمر ببعضهم لدرجة ضرب مواعيد وهمية تحدد تاريخ انتهاء الحرب باليوم والساعة، الإحساس بالإحباط والمرارة اللذان تليا اليوم الأول لانتهاء كهذا نوع من المواعيد جعل فئة واسعة من السوريين أكثر هشاشة تجاه الشائعات، وأكثر حذرا تجاه أية قراءة متفائلة لقادم الأيام مهما كانت الأسس العلمية التي تدعم تلك القراءة.

في الواقع، ليس التحليل السياسي أو الاقتصادي أو العسكري إلا عملية متابعة ممنهجة لمسارات الأحداث بغية استنتاج ما يمكن أن يرشح عنها من احتمالات قد تدفعها باتجاه مسارات أخرى، البحث في إمكانية تحقق هذه الاحتمالات (وليس التنبؤ بها) يأتي من خلال القراءة العلمية للبيئة السياسية الدولية والإقليمية والمحلية التي تتحكم أو تؤثر في مسار كل حدث، قراءة تتناول الإمكانات الراهنة للخصم والصديق، والأرضية التاريخية التي توسم العلاقة بينهما، وصولاً إلى تجاذبات الوضع الدولي، وكلما كانت قراءة هذه المقدمات أكثر دقة وعمقاً كان هامش الخطأ أقل، وبالتالي يكون التحليل المُقدم أكثر انسجاما مع النتائج المستقبلية، ، فتحليل الحدث ليس موهبة تولد مع الإنسان ولا هي كشف صوفي. إنه لغة العلم التي تفترض المواظبة والتمحيص وعدم النطق عن الهوى ولكن من دون انتظار الوحي، لغة تعتمد بأحد أساساتها الأخلاقية قول الرسول العربي: (إن الرجل ليتكلم بكلمة من سخط اللـه فتهوي به في جهنم سبعين خريفاً).

في التحليل السياسي تبقى لغة الاحتمالات واردة ولكن ليس لغة التنجيم، والفارق بين هاتين اللغتين بتقديرنا هو أن احتمال وقوع أمر معين أو عدم وقوعه يرتبط بحركة الأحداث القائمة على الأرض وليس بحركة الأجرام في السماء، فدخول القمر في برج العذراء يمكن أن يُنبئ بأن عدد العوانس من إناث هذه البرج سيتناقص، أو أن معظم السيدات اللاتي يعانين من العقم ستنتفخ بطونهن بحملٍ جديد، ولكن رصد البحرية الأميركية لغواصة روسية تعمل في المياه الإقليمية الأميركية يحتمل إما أن تُقدم واشنطن على استهداف تلك الغواصة وتدميرها، أو أن تسمح لها بالمغادرة في حال قبلت اعتذارا روسياً يقول إن تلك الغواصة كانت في مهمة علمية، ودخلت المياه الإقليمية الأميركية بطريق الخطأ. بطبيعة الحال، الذي يحدد القرار الواجب اتخاذه من الأميركيين ليس نبوءة عرّافة تقول مثلاً: «إذا قصفتم الغواصة فستمرغون أنف الدب الروسي في الوحل، والرئيس بوتين لن يقدم على قصف قواعدكم في أفغانستان أو تركيا أو قطر لأن الشمس خرجت في برج الميزان -برج الرئيس الروسي- وبالتالي لا يمتلك بوتين الطاقة اللازمة لاتخاذ قرار المواجهة العسكرية». طبعا، الأخذ بهذه النبوءة قد يجلب نتائج كارثية على واشنطن إذا كان المحللون الاقتصاديون يرون أن الرد الروسي قد يُطيح بحالة التعافي الاقتصادي الهشّ الذي راكمه الاقتصاد الأميركي منذ عام 2008، أو إذا كان لدى المحللين العسكريين المعطيات الميدانية التي تقول إن رد الرئيس الروسي سيكون حاسماً وسريعاً وستظهر نتائجه على المدى القريب، أو إذا كان المحللون السياسيون يعتقدون أن ردة الفعل الروسي على تدمير الغواصة سيجعل من إمكانية خلق عالم بقطبين أمراً أكثر واقعية، وسينتج عنه حالة استقطاب هائلة تدفع بالعديد من الدول التي عانت من الهيمنة الأميركية إلى دخول المعسكر الروسي بكل ما يعنيه ذلك من إعادة تشكيل الخريطة السياسية الدولية.

وكما أن لغة التحليل السياسي لا تتقاطع مع التنجيم، فإنها كذلك أبعد ما تكون عن لغة الخطاب التعبوي الخالص والقائم على لغة شحذ الهمم وإلهاب المشاعر و«مسح الأرض» بالخصم، ورفع الحليف إلى أعلى عليين، التحليل السياسي لا يحتمل لغة الجزم والقطع وتحديدا إذا كنّا أمام عدو طائش، أنه لغة الوثائق والأرقام القادرة على تمكين صاحب القرار من اتخاذ قراره بأقل قدر ممكن من الآثار السلبية على استقرار الدولة وعلى حياة المواطن العادي.

المعلومات الآتية من صنّاع القرار ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام تُشكل المادة الخام للتحليل السياسي، مادة تكتسب مصداقيتها حينما يصقلها المحلل بالاختصاص العلمي والتجربة العملية، هذان العنصران هما ما يميزان «المُنجّم» عن «المُحلل»، إنهما بمثابة الإلكترونين الزائدين في ذرة الكربون والتي يتحول معهما فحم التدفئة إلى ماس، الماس هذا الحجر الكربوني الذي يُسحرنا جميعاً عندما يتلألأ في عنق «نيكول كيدمان» وهي تختال كبجعة على البساط الأحمر في مهرجان «كان»، على حين أن انعدام هذين الالكترونيين يعني الفحم، فحم التدفئة الذي صار حلماً لشريحة لا بأس بها من السوريين في الشتاء الرابع لهذه الحرب الملعونة، حرب بات أقسى ما فيها دخول الضمير في حالة سبات شتوي لدى شريحة لا بأس بها أيضاً من السوريين. هذا تحليلنا لاشتداد قسوة الحرب على سورية، تحليل قد لا يروق لكثيرين من تجار الحرب، لعلهم يصرخون الآن «كذب المحللون ولو صدقوا».

سيريا ديلي نيوز


التعليقات