سيريا ديلي نيوز- عصام التكروري

تدهشني المساواة، هي تركيبة من حلمٍ ودم، أول عهد البشرية فيها كان جريمة قتل: قيام قابيل بقتل أخيه هابيل، ولعل ارتباط المساواة بباكورة الدمِ المسفوحِ على هذه الأرض المنفى هو الذي حولها إلى حلمٍ لا يحتمله إلا الأصفياء الذين غالباً ما انتهوا كما انتهى هابيل، فهدفهم ليس إلغاء التمييز بين أبناء آدم وحسب، بل تطهيرهم من وصمةِ عارٍ دشنت تاريخ الإنسان بنسخته الأرضية.

سواء قاربنا الأمر من جهة السياسة أو اللاهوت، فحياة الإنسان لا يمكن أن تنقضي من دون لحظة مساواة خالصة تحتفي فيها كل الفوارق بين أبناء السيدة وأبناء الجارية، بين أبناء أوباما وأبناء الإشارات الضوئية، وبين مواطني الدول المضيفة واللاجئين السوريين، هذه اللحظة عمرها خمس ثوان كاملة وهي كناية عن المدة الزمنية للمسافة الفاصلة بين الرحم الذي يخرج منه المولود، وبين القِماط الذي ينتظره، مسافة نقطعها جميعاً عراة إلا من الهواء يتدحرج على أجسادنا الغضة المتشحة بدم هابيل ( طهر أم خطيئة؟)، وبمجرد ملامسة أجسادنا للقِماط يتم تدشين حياة كاملة من التمييز، فبعضنا يتلقفه قِماط من الخيش، وبعضنا الآخر قٍماط من القطن، وفريق ثالث قٍماطه من حرير، بعدها يتوجه الجميع إلى العربة، لن يكون أحد بلا مقعد، إنها المساواة، لكنها المساواة بهدف تكريس التمييز، فثمة من ينتظره مقعد في الدرجة الأولى، آخرون يجدونه في الدرجة الثانية، والباقي في الدرجة الثالثة. هذا التقسيم حددته مسبقاً نوعية القِماط، تقسيم ليس له علاقة «بالوجاهة» بقدر علاقته بالدور الذي سيؤديه كل راكب من ركاب العربة لحظة سقوطها في الوحل، في تلك اللحظة سيبقى ركاب الدرجة الأولى في أماكنهم يتابعون التذمر من سوء الخدمة، أما ركاب الدرجة الثانية فسينزلون بناء على طلب الحوذي حتى يسهلوا مهمة ركاب الدرجة الثالثة الذين سيغوصون حتى أعناقهم في الوحل لإخراج العربة.

هذه الصورة باغتتني وأنا أتابع تقريراً بثته القناة الخامسة الفرنسية تقول فيه: إن الألمان يستهلكون سنوياً مئتين وتسعة عشر ألف طن من الفحم لحفلات الشواء التي يستمتعون بها أيام العطل، طبعاً من حق البشر جميعاً أن يستمتعوا بعطلهم وفقاً للمادة 24 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة في 10 من كانون الأول من عام 1948، هذه المادة قالت إنه «لكل شخص الحق في الراحة وأوقات الفراغ، وفي تحديد معقول لساعات العمل»، لكن الحاصل هو أن الفحم اللازم لحفلات الشواء الألمانية يأتي من رومانيا حيث يقوم عمال - أغلبيتهم من المسنين - باستخدام معدات بدائية لقطع أشجار الغابات ومن ثم تحويلها إلى فحم بأجرٍ مقداره 3 يوروهات لكل يوم عمل مدته 12 ساعة، هؤلاء يعملون من دون أي ضمان صحي أو ضمان ضد الحوادث، فهذان الضمانات سقطا مع سقوط النظام الشيوعي «البغيض»، وغالباً ما تنتهي حياة هؤلاء العمال بالموت نتيجة إصابتهم بسرطان الرئة، أو بالموت مسحوقين تحت جذع شجرة عملاق.

هذا المشهد بات السمة البارزة لعربة أسمها «العالم» يقودها حوذي اسمه «واشنطن»، ركاب الدرجة الأولى هم شعوب «المليار الذهبي»، أما مقاعد الدرجة الثانية فهي متاحة لكل من ترغب واشنطن بترفيعهم إلى الدرجة الأولى، أو قذفهم إلى مقاعد الدرجة الثالثة لمجرد أن تسول لهم أنفسهم أن يبدوا رأياً -وليس اعتراضاً- بالقيادة الرعناء للحوذي والتي ستقود الجميع نحو الهاوية حيث يتساوى أبناء آدم - أو هكذا أعتقد - في لحظة الارتطام.

إنها «عربة الذل» التي يريد حوذيها الأميركي أن يحول العالم إلى قرية صغيرة ليسهل عليه التهامه مع من يختارهم هو من ذئاب، لكن ثمة حقيقة يدركها ذلك الحوذي، حقيقة إخفاق بتحطيمها على الرغم من اعتماده أبشع ما تفتق عنه عقله المجرم من وسائل الإفناء، حقيقة هي النتيجة التوءم لانعدام المساواة بين الجنس البشري، حقيقة تقول إن لحم بعض البشر يولد مراً، لأنه تغذى من عروق يسري فيها سبعة آلاف عام من تلاقح الدم بالياسمين، هؤلاء بشر من حلم ودم، هؤلاء سيغيرون قواعد اللعبة ولو بعد حين.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات