المبعوث "المشترك" للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية, كوفي أنان, لم يحضر قمة الجامعة التي تعلن أنه يمثلها في بغداد يوم الجمعة الماضي, وأعلن المتحدث باسمه أحمد فوزي أنه لن يحضر كذلك "مؤتمر أصدقاء سورية" في اسطنبول التركية هذا الأسبوع.
والدلالات واضحة: فالجامعة العربية و"أصدقاء سورية" هما طرف في الأزمة السورية وليسا جزءا من حلها, وهما معا لم يعودا صاحبي قرار في حل الأزمة, مما يفسر فشل المجموعتين وعجزهما, لا بل إن كلتا المجموعتين تبدو اليوم معزولة عن شبه إجماع دولي يعتبرهما ومنطلقاتهما لحل الأزمة عقبة أمام حلها.
كما أن تأكيد الأمين العام للجامعة د. نبيل العربي بعد انفضاض القمة أن "الأزمة أصبحت مسؤولية مجلس الأمن (الدولي) الآن", يعني تدويلها, لكنه تدويل يعيد توطين الأزمة وحلها في سورية ذاتها, ويحمل المجموعتين استحقاقات للحل إن لم تفيا بها فإنهما تتحملان المسؤولية عن استمرار صب الزيت على نار الأزمة , بينما يبدو الحكم السوري الذي رحب بمهمة أنان أحرص منهما على شعبه وعلى حقن دمائه النازفة وعلى حل الأزمة في أسرع وقت ممكن..
وإذا كانت هذه الدلالات غنية عن البيان بالنسبة لـ "أصدقاء سورية" ومؤتمراتهم, فإن التناقض في "إعلان بغداد" الصادر عن القمة الذي رحب بمهمة أنان "لقيادة العملية السياسية" نحو إيجاد حل "سلمي" للأزمة ودعوة الإعلان "كافة أطياف المعارضة إلى التعامل الايجابي" معه للبدء في "حوار وطني جاد" ثم ترحيبه "بالبيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن" كمرجعية لمهمة أنان يقضي بدعمه ودعمها مع الترحيب في الإعلان ذاته أيضا "بنتائج المؤتمر الدولي لأصدقاء الشعب السوري" في تونس وفي اسطنبول هو تناقض مزدوج يستدعي توضيح ما وصفته صحيفة "الوطن" السعودية بأنه "تراخي وتراجع إعلان بغداد عن المواقف العربية السابقة" لأن "قمة بغداد أعادت الأزمة السورية إلى المربع الأول", بينما لاحظت نظيرتها "عكاظ" اعتراف قمة بغداد "بالعجز عن حل الأزمة داخل البيت العربي" (مقال لعثمان عبد الله), ولخصت الصحيفتان موقفا إعلاميا سعوديا "مستنكرا" طبعا, بدليل تكرار وزير خارجية المملكة الأمير سعود الفيصل لدعوة السعودية إلى "تسليح المعارضة" ودعوتها "المجتمع الدولي" إلى تسليحها.
و"الاستنكار" السعودي لـ"تراجع" قمة بغداد وإعادتها الأزمة إلى "المربع الأول" لا تفسير له سوى الإصرار على استمرار الأزمة, إذ ما المانع من إعادتها إلى المربع الأول, فالأزمة بدأت سورية داخلية وكان ولا يزال حلها ممكنا سورياً وهذا هو "مربعها الأول", ولم يعطل هذا الحل سوى الإصرار على تعريب الأزمة ثم الإصرار على تدويلها.
والمفارقة أن هذا الإصرار على التعريب والتدويل قد انقلب على أصحابه وكانت نتائجه عكسية لتوقعاتهم, فالتدويل الحالي الذي يتخذ من مهمة أنان عنوانا له يعيد توطين الأزمة في سورية ويسعى إلى عزل العوامل "العربية" و"الدولية" السابقة التي صعدتها وجعلتها تستفحل حد الاستعصاء على الحل لولا "الفيتو" الروسي - الصيني المزدوج مكررا مرتين الذي أعاد مجلس الأمن الدولي إلى صوابه وإلى دوره الطبيعي في صيانة السلم الدولي بعد أن حوله الاحتكار الأمريكي للقرار الدولي إلى أداة مطواعة للحرب لا للسلم.
وتمثل التناقض المزدوج في "إعلان بغداد": أولا في التناقض بين الترحيب بمهمة أنان باسم الأمم المتحدة وفي إطارها وبين الترحيب بمؤتمرات "أصدقاء سورية" التي تعمل خارج إطار الأمم المتحدة وتضع العصي في دواليب عجلتها التي يقودها أنان اليوم, وتمثل ثانيا في ترحيب الإعلان بالبيان الرئاسي لمجلس الأمن الدولي الذي يمثل مرجعية لمهمة أنان وينص على "تسهيل" حل تقوده سورية (Syrian-led) "يشمل البدء في حوار سياسي شامل بين الحكومة السورية وبين كل أطياف المعارضة السورية" وبين قمة تنعقد في غياب ممثل للحكومة السورية التي يعتمدها مجلس الأمن الدولي "بالإجماع" الطرف الرئيسي لقيادة الحوار مع المعارضة, مما يجعل إعلان سورية رفضها التعامل مع أية قرارات للجامعة العربية رفضا مشروعا, ويدحض صدق الجامعة في البحث عن حل بينما تستبعد الطرف الأول والأخير المسؤول عن حل أزمة بدأت وطنية بكل المقاييس قبل أن يستغلها الساعون العرب والدوليون إلى "تغيير النظام" لمصالح لا علاقة لها البتة بسورية وطنا وشعبا.
في قمة بغداد تجنب المندوب السعودي في كلمته الشأن السوري, ولم يطلب ممثل قطر الذي ترأس بلاده لجنة الجامعة العربية بشأن الأزمة السورية إلقاء كلمة, وكان مستوى التمثيل هو الأدنى للبلدين بين الوفود المشاركة, وهذه وغيرها مؤشرات مقاطعة عملية للقمة من طرف مجلس التعاون لدول الخليج العربية كادت أن تكون مقاطعة كاملة لولا مشاركة الكويت, في احتجاج واضح على "إعلان بغداد", الذي مثل عودة بالأزمة إلى "المربع الأول" و"تراجعا .. عن المواقف العربية السابقة" التي تبنت موقف السعودية وقطر ومجلس التعاون, مما يجعل قمة بغداد نكسة لها وخطوة باتجاه تدويل غير التدويل الذي أرادته يعيد توطين الأزمة السورية, بالرغم من اعتراض سورية على القمة وإعلانها.
وبقي أن يقارن المراقب بين مستوى التمثيل الخليجي في القمة وبين هذا التمثيل في مؤتمر "أصدقاء سورية" في اسطنبول وبين "الصمت" الخليجي عن سورية في بغداد - ربما باتفاق وراء الكواليس على مبادلته بصمت القمة عن البحرين - - وبين الإفصاح الخليجي في اسطنبول, ليستنتج بأن دول مجلس التعاون تصر على عزل نفسها عن توجه المجتمع الدولي وتطيل أمد الأزمة دون أي أمل في تحقيق ما تبغيه من استمرارها.
فكل الدلائل تؤكد ما صرح به د. جهاد مقدسي الناطق بلسان الخارجية السورية بأن "إسقاط الدولة السورية" قد فشل, وما صرح به الأمين العام لحزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله بأن الحل العسكري قد فشل, وأن التدخل العسكري الأجنبي على الطريقتين العراقية أو الليبية قد أصبح مجرد تمنيات تراود المكابرين بالمحسوس, وأن التخريب المسلح في الداخل يلفظ أنفاسه الأخيرة, لتعود مسؤولية الحل إلى السوريين أنفسهم, سياسيا وسلميا وبالحوار.
وهذه لحظة تاريخية على المعارضة الوطنية السورية اغتنامها, لتكون شريكا في بناء سورية المستقبل, ولحظة تاريخية كذلك كي يعيد مجلس التعاون الخليجي حساباته ويراجع موقفه, فالتراجع عن الخطأ فضيلة, والإمعان فيه خطيئة, عسى أن تقود مراجعة كهذه كل الأطراف إلى التعالي على جراحهم, لعلهم بذلك يعيدون للتضامن العربي حده الأدنى في مواجهة الأخطار غير المصطنعة المحدقة بالأمة من أعدائها التاريخيين, في فلسطين المحتلة بخاصة, فالنار السورية إذا امتد لهيبها لن تستثني أحدا خاصة من نفخوا في رمادها حتى اشتعلت.
فليس مقبولا أن تكون روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا في مجموعة "بريكس" أحرص على حل سياسي سلمي سوري داخلي يحقن دماء السوريين من العرب, برفض المجموعة للتدخل الأجنبي عسكريا أم غير عسكري, وبدعوتها إلى وقف الأعمال الإرهابية, وتسليح المعارضة وتمويلها, وتدمير البنى التحتية في سورية, فبرنامج "بريكس" لحل الأزمة السورية يجب أن يكون برنامجا عربيا في المقام الأول, ومطالب "بريكس" تمثل شروطا مسبقة ليكون الحل داخل البيت العربي.
لقد استجابت سورية للمبادرة العربية, فتخلت الجامعة العربية عن مبادرتها, ودولتها, واليوم تقبل سورية بما تمخض عنه التدويل, لأنه يعيد توطين الأزمة, لكن من طالبوا بالتدويل بين دول الجامعة يحاولون كما يبدو وضع العصي في طريق كوفي أنان الذي يمثل الآن عنوان الحل الدولي, ويحاولون حرف مهمته عن مسارها.
ومن الواضح أن سورية قد أوفت باستحقاقات كل الحلول التي طرحت حتى الآن, وأن الوفاء باستحقاقات حل الأزمة مطلوب اليوم ممن تساهم مواقفهم العربية في إطالة أمد الأزمة, وربما لهذا السبب سيزور أنان الرياض هذا الأسبوع, أو من "ذوي الثارات" الحزبية الذين يواصلون النفخ في رماد الأزمة كلما تكاد أن تنطفئ, فكرة حل الأزمة السورية موجودة الآن خارج سورية, في ملعب الجامعة العربية ثانيا, وفي ملعب مجلس التعاون الخليجي أولا, أما الملعب الأمريكي فلا يوجد أي عربي يتوقع أن يجد فيه حلا لأي أزمة عربية.

التعليقات